فصل في وطء الإماء المجوسيات
 
/فصل
وأما المجوسية، فقد ذكرنا أن الكلام فيها مبني على أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن المجوس لا تحل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم والدليل على هذا وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن يقال‏:‏ ليسوا من أهل الكتاب، ومن لم يكن من أهل الكتاب لم يحل طعامه ولا نساؤه‏.‏ أما المقدمة الأولي، ففيها نزاع شاذ فالدليل عليها أنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155، ، 156‏]‏، فتبين أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ومنعاً لأن يقولوا ذلك ودفعا لأن يقولوا ذلك، فلو كان قد أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا فلا يحتاج إلى مانع من قوله‏.‏
وأيضا، فإنه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفصل بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏، فذكر الملل الست، وذكر أنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولما ذكر الملل التي ‏[‏من‏]‏ فيها سعيد في الآخرة قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏، في موضعين، فلم يذكر المجوس ولا المشركين‏:‏ فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصاري، لذكرهم، فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدي، وكانوا يدخلون الجنة إذا عملوا بشريعتهم، كما كان اليهود والنصاري قبل النسخ والتبديل، فلما لم يذكر المجوس في هؤلاء علم أنه ليس لهم كتاب، بل ذكر الصابئين دونهم، مع أن الصابئين ليس لهم كتاب، إلا أن يدخلوا في دين أحد من أهل الكتابين‏.‏ وهو دليل على أن المجوس أبعد عن الكتاب منهم‏.‏
وأيضا، ففي المسند والترمذي وغيرهما من كتب الحديث والتفسير والمغازي الحديث المشهور‏:‏ لما اقتتلت فارس والروم، وانتصرت الفرس، ففرح بذلك المشركون؛ لأنهم من جنسهم ليس لهم كتاب، واستبشر بذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون النصاري أقرب إليهم؛ لأن لهم كتابا، وأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 1ـ4‏]‏‏.‏ وهذا يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهم كتاب‏.‏
وأيضا، ففي حديث الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره من التابعين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس، وقال‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم‏)‏، وهذا مرسل‏.‏ / وعن خمسة من الصحابة توافقه، ولم يعرف عنهم خلاف‏.‏ وأما حذيفة، فذكر أحمد‏:‏ أنه تزوج بيهودية‏.‏ وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم‏.‏ والمرسل في أحد قولي العلماء حجة، كمذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏ وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن، أو أرسل من وجه آخر‏.‏ وهذا قول الشافعي‏.‏ فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء‏.‏ وهذا المرسل نص في خصوص المسألة، غير محتاج إلى أن يبني على المتقدمين‏.‏
فإن قيل‏:‏ روي عن على‏:‏ أنه كان لهم كتاب فرفع‏.‏ قيل‏:‏ هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره، وإن صح فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فرفع، لا أنه الآن بأيديهم كتاب، وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ أهل الكتاب؛ إذ ليس بأيديهم كتاب، لا مبدل، ولا غير مبدل، ولا منسوخ، ولا غير منسوخ، ولكن إذا كان لهم كتاب ثم رفع، بقي لهم شبهة كتاب، وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية إذا قيدت بأهل الكتاب‏.‏ وأما الفروج والذبائح، فحلها مخصوص بأهل الكتاب‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏، دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة، كما فعل ذلك الصحابة، فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم‏.‏ وقد روي مقيدا‏:‏ ‏(‏غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم‏)‏ فمن جوز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس / عليهم غيرهم في الجزية، ومن خصمهم بذلك قال‏:‏ إن لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم‏.‏ والدماء تعصم بالشبهات ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات، ولهذا لما تنازع على وابن عباس في ذبائح بني تغلب قال على‏:‏ إنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر‏.‏ وقرأ ابن عباس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏، فعلى ـ رضي الله عنه ـ منع من ذبائحهم مع عصمة دمائهم، وهو الذي روي حديث كتاب المجوس، فعلم أن التشبه بأهل الكتاب في بعض الأمور يقتضي حقن الدماء، دون الذبائح والنساء‏.‏