سئل عن رجلين اختلفا في الشطرنج
 
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجلين اختلفا في الشطرنج فقال أحدهما‏:‏ هي حرام‏.‏ وقال الآخر‏:‏ هي ترد عن الغيبة، وعن النظر إلى الناس، مع أنها حلال‏:‏ فأيهما المصيب‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، أما إذا كان بعوض، أو يتضمن ترك واجب‏:‏ مثل تأخير الصلاة عن وقتها، أو تضييع واجباتها، أو ترك ما يجب من مصالح العيال، وغير ذلك مما أوجب على المسلمين؛ فإنه حرام بإجماع المسلمين‏.‏ وكذلك إذا تضمن كذبا، أو ظلما، وغير ذلك من المحرمات، فإنه حرام بالإجماع‏.‏ وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء ـ كمالك وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكثير من أصحاب الشافعي‏:‏ أنه حرام‏.‏ وقال هؤلاء‏:‏ إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال، بل كرهه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قال‏:‏ لم يتبين إلى تحريمه‏.‏ والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي‏.‏ ذكر إجماع الصحابة على المنع منه‏:‏ عن علي بن أبي طالب، وأبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبي موسي، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا‏.‏ ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط‏.‏
والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بلا إسناد، قال البيهقي‏:‏ جعل الشافعي اللعب بالشطرنج من المسائل المختلف فيها / في أنه لا يوجب رد الشهادة، فأما كراهيته اللعب بها فقد صرح بها فيما قدمنا ذكره، وهو الأشبه والأولى بمذهبه‏.‏ فالذين كرهوا أكثر، ومعهم من يحتج بقوله‏.‏ وروي بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقول‏:‏ الشطرنج ميسر العجم‏.‏ وروي بإسناده عن علي‏:‏ أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، وقال‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 52‏]‏، لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها‏.‏ وعن على ـ رضي الله عنه ـ أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال‏:‏ أما والله لغير هذا خلقتم‏!‏ أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم‏!‏ وعن مالك قال‏:‏ بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم فأحرقها‏.‏ وعن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال‏:‏ هو شر من النرد‏.‏ وعن أبي موسي الأشعري قال‏:‏ لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ‏.‏ وعن عائشة‏:‏ أنها كانت تكره الكيل، وإن لم يقامر عليها‏.‏ وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها‏.‏ فهذه أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك‏.‏ ثم روي البيهقي ـ أيضًا ـ عن أبي جعفر محمد بن على المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال‏:‏ دعونا من هذه المجوسية‏.‏
قال البيهقي‏:‏ روينا في كراهية اللعب بها، عن يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم، ومالك بن أنس‏.‏
قلت‏:‏ ‏[‏والكراهية‏]‏ في كلام السلف كثيرًا وغالبًا يراد بها التحريم، وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم، بل صرحوا بأنها شر من النرد، والنرد حرام، وإن لم يكن فيها عوض‏.‏
/وروى بإسناده عن جامع بن وهب، عن أبي سلمة، قال‏:‏ قلت للقاسم بن محمد‏:‏ ما الميسر‏؟‏ قال‏:‏ كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر‏.‏ قال يحيي بن أيوب‏:‏ حدثني عبد الله بن عمر؛ أنه سمع عمر بن عبد الله يقول‏:‏ قلت للقاسم بن محمد‏:‏ هذا النرد ميسر‏.‏ أرأيت الشطرنج ميسر هي‏؟‏قال القاسم‏:‏ كل ما ألهي عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ حدثني يحيي بن أيوب، حدثنا أبو قيس، عن عقبة بن عامر، قال‏:‏ لأن أعبد صنما يعبد في الجاهلية أحب إلى من أن ألعب بهذا الميسر‏.‏ قال القيسي‏:‏ وهي عيدان كان يلعب بها في الأرض‏.‏ وبإسناده عن فضالة بن عبيد، قال ما أبإلى ألعبت بالكيل، أو توضأت بدم خنزير ثم قمت إلى الصلاة‏.‏ وما ذكر عن علي بن أبي طالب‏:‏ أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال‏:‏ ‏{‏مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏‏؟‏ثابت عنه، يشبههم بعباد الأصنام، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90، ، 91‏]‏، و الميسر يدخل فيه النردشير ونحوه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالنردشير فقد صبغ يده في لحم خنزير ودمه‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه قال‏:‏ ‏(‏من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله‏)‏‏.‏
ومذهب الأئمة الأربعة أن اللعب بالنرد حرام، وإن لم يكن بعوض‏.‏ وقد قال ابن عمر ومالك بن أنس وغيرهما‏:‏ إن الشطرنج شر من النرد، وقال أبو حنيفة / وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم‏:‏ النردشير من الشطرنج‏.‏ وكلا القولين صحيح باعتبار؛ فإن النرد إذا كان بعوض، والشطرنج بغير عوض، فالنرد شر منه، وهو حرام حينئذ بالإجماع‏.‏ وأما إن كان كلاهما بعوض أو كلاهما بلا عوض فالشطرنج شر من النرد؛ لأن الشطرنج يشغل القلب ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد‏.‏
ولهذا قيل‏:‏ الشطرنج مبني على مذهب القدر، والنرد مبني على مذهب الجبر‏.‏ فإن صاحب النرد يومي ويحسب بعد ذلك، وأما صاحب الشطرنج فإنه يقدر ويفكر ويحسب حساب النقلات قبل النقل‏.‏ فإفساد الشطرنج للقلب أعظم من إفساد النرد، ولكن كان معروفا عند العرب، والشطرنج لم يعرف إلا بعد أن فتحت البلاد، فإن أصله من الهند وانتقل منهم إلى الفرس؛ فلهذا جاء ذكر النرد في الحديث، وإلا فالشطرنج شر منه إذا استويا في العوض، أو عدمه‏.‏ وقد بسط جواب السؤال في موضع آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏