سئل عن رجلين تراهنا في عمل زجلين وفي ذكرهما التغزل في المردان
 
وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجلين تراهنا في عمل زجلين، وكل منهما له عصبية، وعلى من تعصب لهما، وفي ذكرهما التغزل في المردان وغير ذلك، وما أشبههما أفتونا مأجورين‏.‏
/فأجاب‏:‏
الحمد لله، هؤلاء المتغالبون بهذه الأزجال، وما كان من جنسها هم والمتعصبون من الطرفين، والمراهنة في ذلك وغير المراهنة ظالمون معتدون آثمون، مستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تردعهم وأمثالهم من سفهاء الغواة العصاة الفاسقين عن مثل هذه الأقوال والأعمال، التي لا تنفع في دين ولا دنيا، بل تضر أصحابها في دينهم ودنياهم‏.‏ وعلى ولاة الأمور، وجميع المسلمين الإنكار على هؤلاء وأعوانهم؛ حتى ينتهوا عن هذه المنكرات ويراجعوا طاعة الله ورسوله، وملازمة الصراط المستقيم الذي يجب على المسلمين ملازمته؛ فإن هذه المغالبات مشتملات على منكرات محرمات، وغير محرمات بل مكروهات‏.‏ ومن المحرمات التي فيها تحريمه ثابت بالإجماع وبالنصوص الشرعية، وذلك من وجوه‏.‏
أحدها‏:‏ المراهنة على ذلك بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان المال مبذولا من أحدهما، أو من غيرها، لم يجز؛ لا على قول من يقول‏:‏ لا سبق إلا في خف أو حافر، أو نصل‏.‏ ولا على قول من يقول‏:‏ السبق في غير هذه الثلاثة‏.‏ أما على القول الأول فظاهر، وفي ذلك الحديث المعروف في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل‏)‏‏.‏ وهذه الثلاثة من أعمال الجهاد في سبيل الله، فإخراج السبق فيها من أنواع إنفاق المال في سبيل الله، بخلاف غيرها من المباحات ـ كالمصارعة، والمسابقة بالأقدام ـ فإن هذه الأعمال ليست من الجهاد؛ فلهذا رخص فيها مـن غـير سـبق‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم / صارع ابن عبد يزيد، وسابق عائشة ـ رضي الله عنه ـ وأذن في السباق لسلمة بن الأكوع‏.‏ وأما على القول الثاني فلابد أن تكون المغالبة في عمل مباح، وهذه ليست كذلك‏.‏ وذلك يظهر بالوجه الثاني‏:‏
وهو أن هذه الأقوال فيها من وصف المردان وعشقهم، ومقدمات الفجور بهم ما يقتضي ترغيب النفوس في ذلك، وتهييج ذلك في القلوب‏.‏ وكل ما فيه إعانة على الفاحشة والترغيب فيها، فهو حرام؛وتحريم هذا أعظم من تحريم الندب والنياحة، وذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق‏.‏ والحزن قد يرخص فيه، وأما الفسق فلا يرخص في شيء منه‏.‏ وهذا من جنس القيادة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها‏)‏، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف المرأة؛ لئلا تتمثل في نفسه صورتها، فكيف بمن يصف المردان بهذه الصفات، ويرغب في الفواحش بمثل هذه الأقوال المنكرات التي تخرج القلب السليم، وتعمي القلب السقيم، وتسوق الإنسان إلى العذاب الإليم‏؟‏ ‏!‏ وقد أمر عمر ـ رضي الله عنه ـ بضرب نائحة، فضربت حتى بدا شعرها، فقيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه قد بدا شعرها‏؟‏فقال‏:‏ لا حرمة لها، إنما تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه، وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتفتن الحي وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي شجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، وإنما تبكي على أخذ دراهمكم‏.‏ وبلغ عمر أن شابا يقال له‏:‏ نصر /ابن حجاج تغنت به امرأة فأخذ شعره، ثم رآه جميلا فنفاه إلى البصرة، وقال‏:‏ لا يكون عندي من تغني به النساء، فكيف لو رأي عمر من يغني بمثل هذه الأقوال الموزونة في المردان، مع كثرة الفجور، وظهور الفواحش، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ ‏!‏ فإن هؤلاء من المضادين لله ولرسوله ولدينه‏.‏ ويدعون إلى ما نهى الله عنه، ويصدون عما أمر الله به، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفردًا أو مركبًا؛ لأنهم غيروا فيه كلام العرب، وبدلوه، بقولهم‏:‏ ماعوا وبدوا وعدوا‏.‏ وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع، وتنفر عنه العقول والطباع‏.‏
وأما مركباته، فإنه ليس من أوزان العرب، ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر، ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب‏.‏
ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها‏.‏ فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا ـ فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة، والأوزان القويمة، فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان، الذي لا يهذي به الأقوم من الأعاجم الطِّماطِم الصميان‏؟‏ ‏!‏‏!‏
/الوجه الرابع‏:‏ أن المغالبة بمثل هذا توقع العداوة والبغضاء وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا من جنس النقار بين الديوك، والنطاح بين الكباش، ومن جنس مغالبات العامة التي تضرهم ولا تنفعهم، والله ـ سبحانه ـ حرم الخمر والميسر‏.‏ والميسر هو القمار؛ لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء‏.‏ والميسر المحرم ليس من شرطه أن يكون فيه عوض، بل اللعب بالنرد حرام باتفاق العلماء وإن لم يكن فيه عوض، وإن كان فيه خلاف شاذ لا يلتفت إليه‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله‏)‏؛ لأن النرد يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، وهذه المغالبات تصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من النرد، فإذا كان أكثر الأئمة قد حرم الشطرنج، وجعله مالك أعظم من النرد، مع أن اللاعبين بالنرد، والشطرنج وإن كانوا فساقًا، فهم أمثل من هؤلاء، وهذا بين الوجه الخامس‏:‏ وهو أن غالب هؤلاء، إما زنديق منافق، وإما فاجر فاسق، ولا يكاد يوجد فيهم مؤمن بر، بل وجد حاذقهم منسلخًا من دين الإسلام، مضيعًا للصلوات، متبعًا للشهوات، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين المسلمين‏.‏ وإن كان مسلمًا كان فاسقًا مرتكبًا للمحرمات، تاركًا للواجبات‏.‏ وإن كان الغالب عليهم، إما النفاق، وإما الفسق، كان حكم الله في الزنديق قتله من غير استتابة، وحكمه في الفاسق إقامة الحد عليه؛ إما بالقتل، أو بغيره والمخالط / لهم والمعاشر إذا ادعى سلامته من ذلك لم يقبل؛ فإنه إما أن يفعل معهم المحرمات، ويترك الواجبات، وإما أن يقرهم على المنكرات، فلا يأمرهم بمعروف، ولا ينهاهم عن منكر‏.‏ وعلى كل حال فهو مستحق للعقوبة، وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز أقوام يشربون الخمر فأمر بجلدهم الحد، فقيل‏:‏ إن فيهم صائمًا‏؟‏ فقال‏:‏ إبدؤوا بالصائم فاجلدوه‏:‏ ألم يسمع إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عليكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68، 69‏]‏، فنهى ـ سبحانه ـ عن القعود مع الظالمين، فكيف بمعاشرتهم‏؟‏ أم كيف بمخادنتهم‏؟‏ ‏!‏
وهؤلاء قوم تركوا المقامرة بالأيدي، وعجزوا عنها، ففتحوا القمار بالألسنة، والقمار بالألسنة أفسد للعقل والدين من القمار بالأيدي‏.‏ والواجب على المسلمين المبالغة في عقوبة هؤلاء، وهجرهم، واستتابتهم، بل لو فرض أن الرجل نظم هذه الأزجال العربية من غير مبالغة لنهي عن ذلك، بل لو نظمها في غير الغزل، فإنهم تارة ينظمونها بالكفر بالله وبكتابه ورسوله، كما نظمها أبو الحسن التستري في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق‏.‏ وتارة ينظمونها في الفسق، كنظم هؤلاء الغواة، والسفهاء الفساق‏.‏ ولو قدر أن ناظمًا نظم هذه الأزجال في مكان حانوت، نهى؛ فإنها تفسد اللسان العربى، وتنقله إلى العجمة المنكرة‏.‏
/وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا الحاجة، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك‏:‏ من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه‏.‏ مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربى، وبعث به نبيه العربى، وجعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام، فكيف بمن تقدم على الكلام العربي ـ مفرده ومنظومه ـ فيغيره ويبدله، ويخرجه عن قانونه ويكلف الانتقال عنه‏؟‏ ‏!‏‏!‏ إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال، حيث يصمدون إلى الرجل العاقل فيولهونه، ويخنثونه، فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان‏.‏ وتكميل نوع الإنسان وحرم ما ينير العقل من جميع الألوان، فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه، وقد ضادو الله وراغموا حكمه‏.‏ والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه، لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه؛ فإن صلاح العقل واللسان، مما يؤمر به الإنسان، ويعين ذلك على تمام الإيمان، وصد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران‏.‏ والله أعلم‏.