فصل في في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث
 
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً‏.‏
فصل
في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث، والتي لا تكون من الثلاث، فإن انقسام الفرقة إلى هذين النوعين متفق عليه بين المسلمين ـ فيما أظن ـ فإنه لو حدث بينهما ما أوجب التحريم المؤبد بدون اختيارهما / ـ كالمصاهرة ـ كانت فرقة تعتبر طلاقاً، لكن تنازع العلماء في أنواع كثيرة من ‏[‏المفارقات‏]‏ مثل‏:‏ الخلع، ومثل الفرقة باختلاف الدين، والفرقة لعيب في الرجل مثل جب، أو عنة، ونحو ذلك‏:‏ هل هو طلاق من الثلاث، أم ليس من ذلك‏؟‏
وسبب ذلك تنقيح مناط الفرق بين الطلاق وغيره‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد في هذا الباب أوسع من مذهب أبي حنيفة ومالك؛ ولهذا اختلف قولهما في الخلع‏:‏ هل هو طلاق أم ليس بطلاق‏؟‏ والمشهور عن أحمد أنه ليس بطلاق، كقول ابن عباس، وطاووس، وغيرهما، وهو أحد قولي الشافعي، لكن فرق من فرق، من أصحاب الشافعي وأحمد بين أن يكون بلفظ الطلاق أو بغيره‏.‏ فإن كان بلفظه، فهو طلاق منقص‏.‏ وإن كان بلفظ آخر ونوى به الطلاق فهو طلاق ـ أيضًا‏.‏وإن خلا عن لفظ الطلاق ونيته فهو محل النزاع‏.‏ وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق، كما يحتاج مناط الفرق إلى تحرير، فإن هذا يبني على أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن لفظ الطلاق لا يمكن أن ينوى به غير الطلاق المعدود‏.‏
الثاني‏:‏ تحرير معني الخلع المخالف لمعني الطلاق المعدود، وإلا فإذا قدر أن لفظ الطلاق يحتمل الطلاق المعدود، ويحتمل معني آخر، ونوى / ذلك المعني، لم يقع به الطلاق المعدود‏.‏ وقد قال الفقهاء‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ أنت طالق ونوى من وثاق، أو من زوج قبلي، لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله‏.‏ وهل يقبل منه في الحكم‏؟‏ على قولين معروفين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ فعلم أن الطلاق المضاف إلى المرأة يعني به الطلاق المعدود، ويعني به غير ذلك‏.‏ وقد يضاف الطلاق إلى غير المرأة، كما يروي عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ يا دنيا قد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك‏.‏ ومثل الشعر المأثور عن الشافعي‏:‏ اذهب فودك من ودادي طالق‏.‏
والمنع من ذلك، لما جاءت به السنة من أن لفظ الطلاق المضاف إلى المرأة يراد به الفرقة، ولا يكون من الطلاق المعدود، كما روي الإمام أحمد، وأهل السنن الثلاثة ـ أبو داود، والنسائي، وابن ماجه ـ من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال‏:‏ قلت يا رسول الله، إني أسلمت وتحتى أختان قال‏:‏ ‏(‏طلق ايتهما شئت‏)‏، هذا لفظ أبي داود قال‏:‏ حدثنا يحيي بن معين، حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، قال‏:‏ سمعت يحيي بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب‏.‏
وروي أبو داود من حديث هشيم وعيسي بن المختار، عن ابن أبي ليلي، عن خميصة ابن الشمردل، عن قيس بن الحارث أنه قال‏:‏ أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏اختر منهن أربعًا‏)‏‏.‏ / ورواه ابن ماجه ـ أيضًا‏.‏ وقد روي أحمد والترمذي وابن ماجه ـ واللفظ له ـ‏:‏ أن ابن عمر قال‏:‏ أسلم غيلان وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذ منهن أربعا‏)‏، قال الترمذي سمعت محمد يقول‏:‏ هذا غير محفوظ، والصحيح ما روي شعيب وغيره عن الزهري قال‏:‏ حدثت عن محمد بن سويد أن غيلان‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وفي لفظ الإمام أحمد‏:‏ فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال‏:‏ إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تملك إلا قليلا، وايم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال‏.‏
وقد روي هذا الحديث مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا، وقد رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما في حديث محمد بن جعفر وغيره، عن معمر، عن الزهري مرسلا، لكن بين الإمام أحمد وغيره أن هذا مما غلط فيه معمر لما عدم البصر، فإنه حدثهم به من حفظه، وكان معمر يغلط إذا حدث من حفظه فرواه البصريون عنه كمحمد بن جعفر ـ غندر ـ وغيره، على الغلط، وأما أصحابه الذين سمعوا من كتبه كعبد الرزاق وغيره فرووه على الصواب‏.‏
ففي حديث فيروز‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏طلق أيتهما شئت‏)‏، ليس المراد بذلك الطلاق المعدود على قول الشافعي وأحمد وغيرهما، بل المراد / منه فراقا ليس من الطلاق المعدود؛ فإنه لا يجب عليه أن يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل يفارقها عندهم بغير لفظ الطلاق، وأما لفظ الطلاق فلهم فيه كلام سنذكره إن شاء الله‏.‏ وهكذا ما جاء في حديث غيلان‏:‏ ‏(‏أمسك أربعاً، وفارق سائرهن‏)‏‏.‏ وليس عليه أن يفارقها فرقة تحسب من الطلاق المعدود‏.‏ وقد تنازع الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏‏.‏‏.‏
والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك أنه يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل أراد المفارقة‏:‏ وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أنه قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏خذ منهن أربعاً‏)‏، فدل على أنه إذا اختار منهن أربعاً كفي ذلك، ولا يحتاج إلى إنشاء طلاق في البواقي فلو كان فراقهن من الطلاق المعدود لاحتاج إلى إنشاء سببه، كما لو قال‏:‏ والله لأطلقن إحدى امرأتي‏.‏ فإنه لابد أن يحدث لها طلاقاً، فلو قال‏:‏ أخذت هذه لم يكن هذا وحده طلاقاً لل أخرى‏.‏ اللهم إلا أن يقال‏:‏ هذا مما قد يقع به الطلاق بالأخرى مع النية‏.‏
الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ ما زاد على الأربع حرام عليه بالشرع، وما كانت محرمة بالشرع لم تحتج إلى طلاق، لكن المحرمة لما لم تكن معينة كانت له ولاية التعيين‏.‏
/الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ إن الله قد ذكر في كتابه خصائص الطلاق، وهي منتفية من هذه الفرقة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فجعل المطلقة زوجها أحق برجعتها في العدة، وما زاد على الأربع لا يمكنه أن يختار واحدة منهن في العدة، إلا أن يقول قائل‏:‏ له في العدة أن يرتجع واحدة من المفارقات ويطلق غيرها، وهذا لا أعلمه قولاً‏.‏
الرابع‏:‏ أن الله قال‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، فجعل له بعد الطلقتين أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان، وهذا ليس له في ما زاد على الأربع إذا فارقهن، إلا أن يقال‏:‏ له الرجعة بشرط البدل‏.‏
الخامس‏:‏ أن الله قال‏:‏ ‏{‏إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وهذا الفراق لا يقضي على العدة، بل عليه إذا أسلم أن يفارق ما زاد على الأربع‏.‏ وهذا دليل ظاهر‏.‏
السادس‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وهذه المفارقة ليست كذلك‏.‏
السابع‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، وهذه ليست كذلك‏.‏
/الثامن‏:‏ أن فراق إحدى الأختين وما زاد على الأربع واجب بالشرع عينا‏.‏ والله لم يوجب الطلاق عيناً قط، بل أوجب إما الإمساك بالمعروف وإما التسريح بإحسان‏.‏
التاسع‏:‏ أن الطلاق مكروه في الأصل؛ ولهذا لم يرخص الله فيه إلا في ثلاث، وحرم الزوجة بعد الطلقة الثالثة؛ عقوبة للرجل لئلا يطلق وهنا الفرقة مما أمر الله بها ورسوله، فكيف يجعل ما يحبه الله ورسوله داخلا في الجنس الذي يكرهه الله ورسوله‏؟‏‏!‏ وصار هذا كما أن هجرة المسلمين كانت محظورة في الأصل رخص الشارع منها في الثلاث‏.‏ فأما الهجرة المأمور بها ـ كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ـ فإنها كانت هجرة يحبها الله ورسوله، فلا تكون من جنس ما هو مكروه أبيح منه الثلاث للحاجة، وكذلك إحداد غير الزوجة لما كان محرماً في الأصل أبيح منه الثلاث للحاجة‏.‏ فأما إحداد الزوجة أربعة أشهر وعشراً، فلما كان مما أمر الله به ورسوله لم يكن من جنس ما كرهه الله ورخص منه في ثلاث للحاجة، فكذلك الفرقة التي يأمر الله بها ورسوله لا تكون من جنس الطلاق الذي يكرهه الله ورسوله ورخص منه في ثلاث للحاجة‏.‏
والخلع من هذا الباب، فقد روي البخاري في صحيحه من حديث خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه من خلق ولا دين، / ولكني أكره الكفر في الإسلام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏أتردين عليه حديقته‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏)‏، فهذا فيه من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏)‏‏.‏
وقد ثبت عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما‏:‏ أنهم لم يكونوا يجعلون الخلع من الطلاقات الثلاث، قال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ الخلع تفريق، وليس بطلاق‏.‏ وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس‏.‏ وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وداود وأصحابه، غير ابن حزم‏.‏ وروي عبد الرزاق، عن ابن عينية، عن عمرو بن دينار، عن طاووس أنه سأله إبراهيم بن سعد عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه‏:‏ أينكحها‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ نعم‏.‏ ذكر الله الطلاق في الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك‏.‏ وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن طاووس، قال‏:‏ كان أبي لا يري الفداء طلاقا، ويخير له بينهما‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أخبرني عمرو ابن دينار‏:‏ أنه سمع عكرمة، سمع ابن عباس يقول‏:‏ ما أجازه المال فليس بطلاق، فهذا عكرمة يقول‏:‏ إن كل فرقة وقعت بمال فليست من الطلاق الثلاث، وذلك أن هذا هو معني الفدية المذكورة في كتاب الله / والفدية ليست من الطلاق الثلاث كما بينه ابن عباس، مع أن ابن عباس وعكرمة هما اللذان روي البخاري من طريقهما حديث امرأة ثابت بن قيس، كما تقدم‏.‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا‏.‏ قال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ هو ضعيف مرسل، فيقال‏.‏ هذا في بعض طرقه، وسائر طرقه ليس فيها إرسال‏.‏ ثم هذه الطريق قد رواها مسندة من هو مثل من أرسلها إن لم يكن أجل منه‏.‏ وفي مثل هذا يقضي المسند على المرسل‏.‏ وقد روي هذا الحديث الحاكم في صحيحه المسمى بالمستدرك وقال‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد غير أن عبد الرزاق أرسله عن معمر، وخرجه القشيري في أحكامه التي شرط فيها أن لا يروي إلا حديث من وثقة إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ وأئمة الفقه النظار‏.‏
قال‏:‏ وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلى، فإنهما قالا‏:‏ عدتها ثلاث حيض‏.‏ وأما ابن عمر فقد روي مالك عن نافع عنه قال‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة، وهو أصح عنه‏.‏
فيقال‏:‏ أما المنقول عن عمر وعلى‏.‏‏.‏‏.‏ وبتقدير ثبوت النزاع بين الصحابة، فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والسنة قد بينت أن الواجب حيضة‏.‏‏.‏‏.‏ ومما بين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تحيض / وتتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏ فلو كان قد طلقها إحدى الطلقات الثلاث للزمتها عدة مطلقة بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع فإنه قد ثبت عن غير واحد من السلف والخلف أنه ليس له عدة، وإنما فيه استبراء بحيض‏.‏ والنزاع في هذه المسألة معروف‏.‏
أما الحديث المسند فرواه أهل السنن فقال النسائي‏:‏ حدثنا محمد بن يحيي المروزي، حدثني شاذان بن عثمان أخو عبدان، حدثنا أبي، حدثنا علي بن ‏[‏المبارك‏]‏ عن يحيي بن أبي كثير، أخبرني محمد بن عبد الرحمن، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته‏.‏ ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق‏.‏ ورواه ابن أبي عاصم، عن محمد بن سعد وعن يعقوب بن مهران، عن الربيع بنت معوذ‏.‏ ورواه ابن ماجه عن علي بن سلمة النيسابوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت ـ وكلاهما يزعم أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها ـ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح ـ وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي ـ فأتي أخوها يشتكيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فقال له‏:‏ ‏(‏خذ الذي لها عليك، وخل سبيلها‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏ أي بعد حيضة‏.‏ ورواه / أبو داود في سننه، والترمذي في جامعة وأبو بكر بن أبي عاصم في كتاب الطلاق له‏:‏ ثلاثتهم عن محمد بن عبد الرحمن البغدادي، حدثنا علي بن يحيي القطان أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ ورواه الحاكم في صحيحه‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ هذا الحديث رواه عبد الرازق، عن عمرو بن مسلم عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي الترمذي ـ أيضًا ـ عن الربيع بنت معوذ بن عفراء‏:‏ أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ـ أو أمرت ـ أن تعتد بحيضة وقال الترمذي‏:‏ حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وروي النسائي وابن أبي عاصم وابن ماجه عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت‏:‏ اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت ماذا على من العدة‏؟‏ فقال‏:‏ لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة‏.‏ ولفظ ابن ماجه‏:‏ تمكثين عنده، حتى تحيضي حيضة‏.‏ وأما النسائي، وابن أبي عاصم، فلم يقولا‏:‏ عنده‏.‏ قالت‏:‏ وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعالية، كانت تحت ثابت ابن قيس فاختلعت منه‏.‏
فهذه ثلاث طرق لحديث امرأة ثابت بن قيس بن شماس التي خالعها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، ورواه أبو بكر / ابن أبي عاصم في كتاب الطلاق من الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع طرق، فيكون للحديث خمسة طرق، أو ستة‏:‏ ذكر حديث الربيع الذي فيه ذكر مريم المعالية، ولم يذكر حديث الربيع المتقدم الذي فيه ضرب ثابت لامرأته جميلة‏.‏
وقد صححه ابن حزم وغيره، ذكر‏:‏ قال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عمر بن يونس، عن سليمان ابن أبي سليمان، عن يحيي بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن الربيع‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المختلعة أن تعتد بحيضة‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ حدثنا محمد ابن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن يحيي بن النظر ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء‏:‏ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن امرأة ثابت بن قيس‏:‏ أنه كان بينها وبين زوجها بعض الشيء، وكان رجلا فيه حدة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فأرسل إلى ثابت، ثم إنه قبل منها الفدية فافتدت منه، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة‏.‏
قال أبو بكر ابن أبي عاصم‏:‏ مما دل على أن الخلع فسخ، لا طلاق‏:‏ ما ثبت به الإسناد، حدثنا محمد بن مصفي، حدثنا سويد بن عبد العزيز / ـ هو يحيي بن سعيد ـ عن عمرة، عن حبيبة بنت سهيل، قالت‏:‏ امرأة كان هم أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخطبها ثابت بن قيس فتزوجها وكان في خلق ثابت شدة، فضربها، فأصبحت بالغلس على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏من هذه‏؟‏‏)‏ فقالت حبيبة‏:‏ أنا يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت‏.‏ قال‏:‏ فلم يكن إلا أن جاء ثابت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ضربتها‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ضربتها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذ منها‏)‏ فقالت يا رسول الله‏:‏ إن عندي كل شيء أعطانيه‏.‏ فقال‏:‏ فأخذ منها، وجلست في بيتها‏.‏ قال ابن أبي عاصم‏:‏ ولم يذكر ‏[‏طلاقًا‏]‏‏.‏ قال‏:‏ وفي حيضة واحدة دليل على أنها ليست بمطلقة، وكذلك في عدتها في بيتها، ولو كانت مطلقة لكان لها السكني والنفقة‏.‏
قلت‏:‏ هذا على قول من يجعل الخلع طلقة رجعية إذا كان طلاقا، كما هو قول أبي محمد عن جمهور أهل الحديث، وداود‏.‏ وابن أبي عاصم يوافقهم على ذلك‏:‏ مذهبه أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، على حديث فاطمة بنت قيس، قال ابن أبي عاصم‏:‏ وممن قال تعتد بحيضة‏:‏ عثمان بن عفان، وابن عمر وممن قال‏:‏ فسخ، وليس بطلاق‏:‏ ابن عباس، وابن الزبير‏.‏
قلت‏:‏ وقد ذكر ابن المنذر عن أحمد بن حنبل‏.‏ أنه ضعف كل ما يروي عن الصحابة مخالفا لقول ابن عباس‏.‏
/وقد ذكر الشيخ أبو محمد في مغنية هذه الرواية التي ذكرها أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن أحمد، منه نقلها أبو محمد، وهي موجودة في غير ذلك من الكتب، فقال‏:‏ وأكثر أهل العلم يقولون‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة ـ ومنهم سعيد بن المسيب‏.‏ ومنهم طائفة من العلماء منهم مالك والشافعي‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس وأبان بن عثمان وإسحاق وابن المنذر‏:‏ أن عدة المختلعة حيضة‏.‏ وروي ابن القاسم عن أحمد كما روي ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة رواه النسائي، وعن الربيع بنت معوذ مثل ذلك، رواه النسائي وابن ماجه‏.‏ قال‏:‏ ولنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء، كالخلع‏.‏
فيقال‏:‏ أما الآية فلا يجوز الاحتجاج بها حتى يبين أن المختلعة مطلقة، وهذا محل النزاع، ولو قدر شمول نص لها فالخاص يقضي على العام، والآية قد استثني منها غير واحدة من المطلقات، كغير المدخول بها، والحامل، والأمة، والتي لم تحض، وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة‏.‏
وأما القياس المذكور، فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور،ولا نسلم الحكم في جميع صور الناس، ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها، وقد دلت السنة على أن الواجب فيهما الاستبراء‏.‏
/وأما الرواية‏:‏ هل هي جميلة بنت أبي‏؟‏ أو سهلة بنت سهيل‏؟‏ أو أخرى‏؟‏ فهذا مما اختلفت فيه الرواية، فأما أن يكونا قصتين، أو ثلاثاِ، وإما أن أحد الراويين غلط في إسمها، وهذا لا يضر مع ثبوت القصة، فإن الحكم لا يتعلق باسم امرأته‏.‏ وقصة خلعه لامرأته مما تواترت به النقول، واتفق عليه أهل العلم‏.‏
وقد روي مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، عن حبيبة بنت سهل الأنصارية‏:‏ أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من هذه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله، قال‏:‏‏(‏ما شأنك‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏لا أنا ولا ثابت بن قيس ـ لزوجها ـ فلما جاء ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر‏)‏، فقالت حبيبة‏:‏ يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت‏:‏ ‏(‏خذ منها‏)‏، فأخذ منها وجلست في أهلها‏.‏
وقد ذكر ابن حزم هذا الحديث وحديث الاعتداد بحيضة في حجة من يقول إن الخلع فسخ، وقال‏:‏ قالوا‏:‏ فهذا يبين أن الخلع ليس طلاقاً، لكنه فسخ، ولم يذكر حديث ابن عباس إلا من طريق عبد الرزاق المرسل، وقال‏:‏ أما حديث عبد الرزاق فساقط؛ لأنه مرسل،/ وفيه عمرو بن مسلم وليس بشيء، وأما خبر الربيع وحبيبة فلو لم يأت غيرهما لكانا حجة قاطعة، لكن رويا من طريق البخاري‏.‏ وذكر ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقبل الحديقة وطلقها تطليقة‏)‏، قال‏:‏ فكان هذا الخبر فيه زيادة على الخبرين المذكورين لا يجوز تركها، وإذ هو طلاق فقد ذكر الله عدة الطلاق، فهو زائد على ما في حديث الربيع، والزيادة لا يجوز تركها‏.‏
فيقال له‏:‏ أما قولك عن حديث عبد الرزاق‏:‏ إنه مرسل، فقد رواه أبو داود، والترمذي‏:‏ من حديث همام بن يوسف مسنداً، كما تقدم، ومن أصلك‏:‏ أن هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة، والحديث قد حسنه الترمذي‏.‏ وأما قولك عن عمرو بن مسلم، فيقال‏:‏ قد روي له مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب أفعال العباد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيي بن معين في رواية إبراهيم ابن المسند‏:‏ لا بأس به، وقال أبو أحمد بن عدي‏:‏ وليس له حديث منكر جداً‏.‏
وأما الحديث الآخر، الذي اعترفت بصحته، وجعلته حجة قاطعة لولا المعارض، فهو نص في المسألة، حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏
/وأما ما ذكرت‏:‏ أن الطريق الأخرى فيه زيادة، وهو أنه أمره أن يطلقها تطليقة واحدة، والمطلقة تجب عليها العدة، فليس هذا زيادة، بل إن لم يكن المراد بالطلقة هنا الفسخ، كانت هذه الرواية معارضـة لتلك، فإن تلك الرواية فيها نص بأنها تلحق بأهلها مع الحيضة الواحدة، ولو لم يكن إلا قوله‏:‏ أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، لكان هذا بينا في أنه أمرها بحيضة واحدة لا بأكثر منها، إذ لو أمرها بثلاث لما جاز أن يقتصر على قوله‏:‏ أمرها بحيضة واحدة، فكيف وقد قال‏:‏ ‏(‏وتلحق بأهلها‏)‏‏؟‏ ‏!‏
وأيضًا، فسائر الروايات من الطرق يعاضد هذا أو يوافق، وقد عضدها عمل عثمان بن عفان، وهو أحد الخلفاء الراشدين بذلك، وقد تقدم بعض طرق حديثه، وأنه اتبع في ذلك السنة في امرأة ثابت بن قيس‏.‏
وأيضًا، فلو قدر أنه قال في الرواية الأخري‏:‏ أمرها أن تعتد بثلاث حيض، لكان هذا تعارضًا في الرواية، ينظر فيه إلى أصح الطريقين‏.‏ فكيف وليس فيه إلا قوله‏:‏ ‏(‏وطلقها تطليقة‏)‏‏؟‏ ‏!‏ والراوي لذلك هو ابن عباس وصاحبه، وهما يرويان ـ أيضا ـ ‏(‏أنه أمرها أن تعتد بحيضة‏)‏ وهما ـ أيضا ـ يقولان‏:‏ الخلع فدية، لا تحسب من الطلقات الثلاث‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏وطلقها تطليقة‏)‏ إن كان هذا محفوظا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ما قبله، فلابد من أحد أمرين‏:‏ إما أن يقال‏:‏ الطلاق / بعوض لا تحسب فيه العدة بثلاثة أشهر، ويكون هذا مخصوصًا من لفظ القرآن‏.‏ وإذا قيل‏:‏ هذا في الطلاق بعوض، فهو في الخلع بطريق الأولى‏.‏ وإما أن يقال‏:‏ مراده بقوله‏:‏ ‏(‏طلقها تطليقة‏)‏ هو الخلع، وأنه لا فرق عند الشارع بين لفظ الخلع والطلاق إذا كان ذلك بعوض، فإن هذا فدية، وليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا يعود إلى المعني الأول‏.‏ وبكل حال، فإنه إذا لم يجعل الشارع في ذلك عدة علم أنه ليس من الطلاق الثلاث، فإن القرآن صريح بأن ما كان من الطلاق الثلاث ففيه العدة‏.‏
وأيضًا، فهذا إجماع فيما نعلمه، لا نعلم أحدًا نازع في هذا وقال‏:‏ إن الخلع طلقة محسوبة من الثلاث، ومع ذلك لا عدة فيه‏.‏ وهذا مما يؤيد أن الخلع فسخ، وقد تقدم بعض المنقول عن عثمان وغيره‏.‏ وروى يحيي بن بكير حدثنا الليث بن سعد، عن نافع مولي ابن عمر‏:‏ أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء، وهي تخبر عبد الله بن عمر‏:‏ أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان، فجاء عمها إلى عثمان، فقال‏:‏ إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ لتنتقل، ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها، إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة؛ خشية أن يكون بها حبل، فقال عبد الله بن عمر‏:‏ ولعثمان خيرنا، وأعلمنا‏.‏ قال ابن حزم‏:‏ فهذا عثمان، والربيع ولها صحبة، وعمها وهو من كبار الصحابة، وابن عمر‏:‏ كلهم لا يري في الفسخ عدة‏.‏
/فإن قيل‏:‏ فقد نقل عن عثمان وابن عمر‏:‏ أنه طلاق، كما روي حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد، فاختلعت منه، فندما، فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك، وقال‏:‏ هي واحدة؛ إلا أن تكون سميت شيئا، فهو على ما سميت‏.‏ وقد روي مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة‏.‏ وقد روي أبو داود قال‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن زوج بريرة كان عبدًا أسود، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرها أن تعتد، وهكذا رواه ابن أبي عاصم‏:‏ حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بريرة بأربع قضايا‏:‏ أمرها أن تختار، وأمرها أن تعتد‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا الحلواني، حدثنا عمرو بن‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أحسبه قال فيه‏:‏ ‏[‏تعتدي عدة الخلع‏]‏، فهذا فسخ أوجب فيه العدة؛ ولهذا قال ابن حزم‏:‏ إنه لا عدة في شيء من الفسوخ، إلا في هذا؛ لأنه لا يقول بالقياس، وليس في النص إيجاب العدة في فسخ‏.‏
/لكن لفظ الاعتداد يستعمل عندهم في الاعتداد بحيضة، كما في حديث المختلعة من غير وجه أمرها أن تعتد بحيضة وقالت عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، والمراد بها‏:‏ الاستبراء؛ فإن المسبية لا يجب في حقها إلا الاستبراء بحيضة، كما قال صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة‏)‏، وقال فيه‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏، وهكذا في الحديث المعروف عن أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس من رواية أبي الخليل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏(‏حلال إذا انقضت عدتهن‏)‏، وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏)‏ وأبو سعيد روي هذا وهذا‏.‏ وعلى الحديثين‏:‏ أم الولد تعتد بحيضة وقال عمرو بن عاصم‏:‏ وأحسبه قال‏:‏ تعتد عدة الحرة‏.‏ شك لا تقوم به حجة‏.‏
وعن أحمد في عدة المختلعة روايتان‏:‏ ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي قال أبو بكر في الشافي‏:‏ باب عدة المختلعة والملاعنة وامرأة عصبي، وروي بإسناده عن الأثرم، وإبراهيم بن الحارث؛ أنه قيل لأبي عبد الله‏:‏ عدة كل مطلقة ثلاث حيض‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إلا الأمة‏.‏ قيل له‏:‏ المختلعة، والملاعنة وامرأة المرتد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ كل فرقة عدتها ثلاث حيض‏.‏ وعن أبي طالب أن / أبا عبد الله قال في المختلعة تعتد مثل المطلقة ثلاث حيض‏.‏ وروي عن أحمد ابن القاسم قال أبو عبد الله‏:‏ عدة المختلعة حيضة‏.‏ قال عبد العزيز‏:‏ والعمل على رواية الأثرم، والعبادي‏:‏ أن كل فرقة من الحرائر عدتها ثلاث حيض، وحديث المختلعة أمرت أن تعتد بحيضة ضعيف؛ لأنه مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما قلت أذهب، وهو قول عثمان بن عفان‏.‏
قلت‏:‏ ابن القاسم كثيرًا ما يروى عن أحمد الأقوال المتأخرة التي رجع إليها، كما روي عنه أن جمع الثلاث محرم، وذكر أنه رجع عن قوله‏:‏ إنه مباح، وأنه تدبر القرآن فلم يجد فيه الطلاق إلا رجعيًا‏.‏ وهكذا قد يكون أحمد ثبتت عنده في المختلعة فرجع إليها، فقوله‏:‏ عدتها حيضة، لا يكون إلا إذا ثبت عنده الحديث، وإذا ثبت عنده لم يرجع عنه‏.‏ ولأصحاب أحمد في وطء الشبهة وجهان، وكذلك ابن عمر كان يقول أولاً‏:‏ إن عدتها ثلاث حيض، فلما بلغه قول عثمان بن عفان أنها تستبرأ بحيضة رجع إليه ابن عمر‏.‏
وما ذكره أبو بكر عن عثمان رواية مرجوحة، والمشهور عن عثمان أنها تعتد بحيضة، وهو قول ابن عباس، وآخر القولين عن ابن عمر، ولم يثبت عن صحابي خلافه، فإنه روي خلافه عن عمر وعلى بإسناد ضعيف، وهو قول أبان بن عثمان، وعكرمة، وإسحاق ابن راهويه، وغيره من فقهاء الحديث‏.‏
/وقد روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا وردت أثمانهم‏.‏
ففي هذا الحديث أن المهاجرة من دار الحرب إذا حاضت ثم طهرت، حل لها النكاح، فلم يكن يجب عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا بثلاثة قروء، وهي معتدة من وطء زوج، لكن زال نكاحه عنها بإسلامها‏.‏ ففي هذا أن الفرقة الحاصلة باختلاف الدين ـ كإسلام امرأة الكافر ـ إنما يوجب استبراءًا بحيضة‏:‏ وهي فسخ من الفسوخ، ليست طلاقا‏.‏ وفي هذا نقض لعموم من يقول‏:‏ كل فرقة في الحياة بعد الدخول توجب ثلاثة قروء‏.‏ وهذه حرة مسلمة؛ لكنها معتدة من وطء كافر‏.‏
/وقد تنازع العلماء في امرأة الكافر هل عليها عدة أم استبراء‏؟‏ على قولين مشهورين، ومذهب أبي حنيفة ومالك لا عدة عليها‏.‏
وما في هذا الحديث من رد إناث عبيد المعاهدين، فهو نظير رد مهور النساء المهاجرات من أهل الهدنة، وهن الممتحنات اللاتي قال الله فيهن‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ومن أنه كان إذا هاجر زوجها قبل أن تنكح فهو أحق بها، فهذا أحد الأقوال في المسألة، وهو أن الكافر إذا أسلمت امرأته‏:‏ هل تتعجل الفرقة مطلقا، أو يفرق بين المدخول بها وغيرها، أو الأمر موقوف ما لم تتزوج، فإذا أسلم فهي امرأته‏؟‏ والأحاديث إنما تدل على هذا القول، ومنها هذا الحديث، ومنها حديث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الثابت في الحديث أنه ردها بالنكاح الأول بعد ست سنين، كما رواه أحمد في مسنده، ورواه أهل السنن‏:‏ أبو داود وغيره، والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا‏.‏ وفي رواية‏:‏ بعد ست سنين، وفي إسناده ابن إسحاق، ورواه الترمذي وقال‏:‏ ليس بإسناده بأس، وروي أبو داود والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إني كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول‏.‏ وفي إسناده سماك‏.‏
/فقد ردها لما ذكر أنه أسلم وعلمت بإسلامه‏.‏ ولم يستفصله‏:‏ هل أسلما معا‏؟‏ أو هل أسلمت قبل أن تنقضي العدة‏؟‏ وترك الاستفصال يدل على أن الجواب عام مطلق في كل ما تتناوله صور السؤال؛ وهذا لأنه متي أسلم على شيء فهو له‏.‏ وإذا أسلم على مواريث لم تقسم قسمت على حكم الإسلام، وكذلك على عقود لم تقبض فإنه يحكم فيها بحكم الإسلام، ولو أسلم رقيق الكافر الذمي لم يزل ملكه عنه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه، ويحال بينه وبين ثبوت يده عليه، واستمتاعه بإمائه‏:‏ أم ولده، وغيرها والاستخدام، فكذلك إذا أسلمت المرأة حيل بينها وبين زوجها، فإن أسلم قبل أن يتعلق بها حق غيره فهو كما لو أسلم قبل أن يباع رقيقـه فهو أحـق بهم، والدوام أقوي مـن الابتـداء، ولأن القـول بتعجيل الفـرقة خـلاف المعلـوم بالتواتر مـن سـنة رسـول الله صلى الله عليه وسلم، والقـول بالتوقـف على انقضـاء العدة ـ أيضا ـ كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ذلك فيمن أسلم على عهده من النساء والرجال مع كثرة ذلك؛ ولأنه لا مناسبة بين العدة وبين استحقاقها بإسلام أحدهما‏.‏ وقياس ذلك على الرجعة من أبطل القياس من وجوه كثيرة‏.‏
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في السبايا‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض‏)‏‏.‏ وهذا الحديث يقتضي أنه لا يجب في الاستبراء إلا الحيض، أو الحمل في الصغيرة التي لا تحيض، والأمة لا يتصور هذا في حقها، فليس في الحديث إيجاب استبراء على من لا تحيض / وإيجاب ذلك بعيد عن القياس؛ ولهذا اضطرب القائلون به على أقوال كل منها منقوض‏.‏
وأيضًا، فلم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالاستبراء في غير هذا؛ لأنهن كن موطؤات لهن أزواج‏.‏ وأما الإماء اللاتي كن يبعن على عهده فلم يكن يوطئن في العادة، بل كن للاستخدام في الغالب‏.‏ وهذا يقتضي أن الأمة التي لم يطأها سيدها لا يجب على المستبرئ استبراؤها، كما لا يجب استبراؤها إذا تزوجت، فإذا لم يجب في التزويج، ففي التسري أولى وأحري، وقد قال ابن عمر‏:‏ لا استبراء على المسلمة؛ وذلك لأنها توطأ، فمن لا يجب عليها عدة ولا استبراء إذا زوجت لم يجب عليها استبراء إذا وطأت بملك اليمين، وكذلك قال الليث بن سعد قال‏:‏ إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراءها لا بحيض، ومن لا تحمل، فهذا موافق للنص‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا استبرؤها‏.‏ ‏.‏ استبراء عليه، وقال مالك‏:‏ إذا كانت في يده كالوديعة ونحوها وعلم أنها لم توطأ، لم يحتج إلى استبراء إذا استبرأها، وكذلك الذي قال‏:‏ لا يجب الاستبراء إلا على حامل أو موطوءة‏.‏ وإليه مال الروياني‏.‏
/والذي يدل عليه النص أن الاستبراء مشروع حيث أمكن أن تكون حاملا، فإنه أمر بالاستبراء الحامل والحائض من المسبيات اللاتي لا تعلم حالهن‏.‏ فأما مع العلم ببراءة الرحم فلا معنى للاستبراء‏.‏ وحديث ابن شهاب الذي في الموطأ مرسل‏.‏
والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على المطلقات، لا على من فارقها زوجها بغير طلاق، ولا على من وطئت بشبهة، ولا على المزني بها‏.‏ فإذا مضت السنة بأن المختلعة إنما عليها الاعتداد بحيضة الذي هو استبراء، فالموطوءة بشبهة والمزني بها أولى بذلك، كما هو أحد الروايتين عن أحمد في المختلعة، وفي المزني بها‏.‏ والموطوءة بشبهة، دون المزني بها، ودون المختلعة‏.‏ فبأيهما ألحقت لم يكن عليها إلا الاعتداد بحيضة، كما هو أحد الوجهين‏.‏
والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المطلقة لزوجها عليها رجعة ولها متعة بالطلاق ونفقة، وسكنى في زمن العدة، فإذا أمرت أن تتربص ثلاثة قروء لحق الزوج، ليتمكن من ارتجاعها في تلك المدة، كان هذا مناسبا، وكان له في طول العدة حق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، فبين ـ سبحانه ـ أن العدة للرجل على المطلقة إذا وجبت؛ فإذا مسها كان له عليها العدة لأجل مسه لها، وكان له الرجعة عليها، ولها بإزاء ذلك النفقة والسكنى، كما لها متاع لأجل الطلاق‏.‏ أما غير المطلقة إذا لم يكن لها نفقة ولا سكنى ولا متاع، ولا للزوج الحق برجعتها، فالتأكد من براءة الرحم تحصل بحيضة واحدة، كما يحصل في المملوكات، وكونها حرة لا أثر له، بدليل أن أم الولد تعتد بعد وفاة زوجها بحيضة عند أكثر الفقهاء، كما هو قول ابن عمر وغيره، وهي حرة‏:‏ فالموطوءة بشبهة ليست خيرًا منها‏.‏ والتي فورقت بغير طلاق، وليست لها نفقة، ولا سكنى، ولا رجعة عليها، ولا متاع هي بمنزلتها‏.‏
فإن قيل‏:‏ هذا ينتقض بالمطلقة آخر ثلاث تطليقات، فإنه لا نفقة لها ولا سكنى ولا رجعة، ومع هذا تعتد بحيضة‏؟‏ قيل‏:‏ هذه المطلقة لها المتعة عند الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، وكثير من السلف أو أكثرهم ولها النفقة عند مالك والشافعي، وكثير من فقهاء الحجاز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولها السكنى مع ذلك عند كثير من فقهاء العراق كأبي حنيفة وغيره، فلابد لها من متاع، أو سكنى عند عامة العلماء‏.‏ فإذا وجبت العدة بإزاء ذلك، كان فيه من المناسبة ما ليس في إيجابها على من لا متاع لها ولا نفقة ولا سكنى‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر فاطمة بنت قيس / لما طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات أن تعتد، وأمـرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، ثم أمرها بالانتقال إلى بيت أم شريك‏.‏
والحديث وإن لم يكن في لفظه أن تعتد ثلاث حيض، فهذا هو المعروف عند من بلغنا قوله من العلماء؛ فإن كان هذا إجماعا، فهو الحق، والأمة لا تجتمع على ضلالة‏.‏ وإن كان من العلماء من قال‏:‏ إن المطلقة ثلاثا إنما عليها إلا الاستبراء لا الاعتداد بثلاث حيض، فهذا له وجه قوي بأن يكون طول العدة في مقابلة استحقاق الرجعة، وهذا هو السبب في كونها جعلت ثلاثة قروء‏.‏ فمن لا رجعة عليها لا تتربص ثلاثة قروء، وليس في ظاهر القرآن إلا ما يوافق هذا القول، لا يخالفه، وكذلك ليس في ظاهره إلا ما يوافق القول المعروف لا يخالفه‏.‏ فأي القولين قضت السنة كان حقا موافقا لظاهر القرآن‏.‏ والمعروف عند العلماء هو الأول، بخلاف المختلعة فإن السنة مضت فيها بما ذكر، وثبت ذلك عن أكابر الصحابة وغير واحد من السلف، وهو مذهب غير واحد من أئمة العلم، وليس في القرآن إلا ما يوافقه لا يخالفه، فلا يقاس هذا بهذا‏.‏ والمعاني المفرقة بين الاعتداد بثلاثة قروء والاستبراء إن علمناها وإلا فيكفينا اتباع ما دلت عليه الأدلة الشرعية الظاهرة المعروفة‏.‏
ومما يوضح هذا أن المسبيات اللاتي يبتدأ الرق عليهن قد تقدم الإشارة إلى حديث أبي سعيد الذي فيه‏:‏ إن الله أباح وطئهن للمسلمين لما تحرجوا من / وطئهن، وأنزل في ذلك‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، وقال فيه‏:‏ إن أجل وطئهن إذا انقضت عدتهن‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس‏:‏ ‏(‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏)‏، وروي‏:‏ ‏(‏حتى تحيض حيضة‏)‏‏.‏
والعلماء عامة إنما يوجبون في ذلك استبراء بحيضة، وهو اعتداد من وطء زوج يلحقه النسب، ووطؤه محترم وإن كان كافرًا حربيًا، فإن محاربته أباحت قتله، وأخذ ماله، واسترقاق امرأته‏.‏ على نزاع وتفصيل بين العلماء، لكن لا خلاف أن نسب ولده ثابت منه، وأن مائه ماء محترم لا يحل لأحد أن يطأ زوجته قبل الاستبراء باتفاق المسلمين، بل قد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، كما في الحديث الصحيح في مسلم‏:‏ أنه أتي على امرأة مجح على باب فسطاط، فقال‏:‏ ‏(‏لعل سيدها يلم بها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له‏؟‏ ‏!‏ كيف يستعبده وهو لا يحل له‏؟‏ ‏!‏‏)‏ ونهي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره‏.‏
لكن هذه الزوجة لم يفارقها زوجها باختياره، لا بطلاق؛ ولا غيره، لكن طريان الرق عليها أزال ملكه إلى المسترق، أو اشتباه زوجها بغيره أزال ذلك‏.‏ فعلم أنه ليس بنكاح زال عن امرأة؛ فإنه يوجب العدة بثلاثة قروء‏.‏ ولو أن الكافر تحاكم إلينا هو وامرأته في العدة ثم طلق امرأته، / لألزمناها بثلاثة قروء، فعلم أن المطلقة عليها ثلاثة قروء مطلقا، وأن هذه لما زال نكاحها بغير طلاق لم يكن عليها ثلاثة قروء‏.‏ فلا يقال‏:‏ إن كل معتدة من مفارقة زوج في الحياة عليها ثلاثة قروء، بل هذا منقوض بهذه بالنص والإجماع‏.