سئل عمن طلق في الحيض والنفاس‏ هل يقع
 
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن طلق في الحيض والنفاس‏:‏ هل يقع عليه الطلاق أم لا‏؟‏
فأجاب‏:‏
أما قوله لها‏:‏ أنت طالق ثلاثًا وهي حائض، فهي مبنية على أصلين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن الطلاق في الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع، فإنه /لا يعلم في تحريمه نزاع، وهو طلاق بدعة‏.‏ وأما طلاق السنة‏:‏ أن يطلقها في طهر لا يمسها فيه، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها، فإن طلقها في الحيض، أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له، فهو طلاق بدعة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وفي الصحاح والسنن والمسانيد‏:‏ أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق فيها النساء‏)‏‏.‏
وأما جمع الطلقات الثلاث، ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ محرم ـ أيضًا ـ عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏ واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد‏:‏ تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي ـ يعني طلاق المدخول بها ـ غير قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وعلى هذا القول‏:‏ فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار فيطلقها في كل طهر طلقة‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏:‏ إحداهما‏:‏ له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة‏.‏ والثانية‏:‏ ليس له ذلك وهو قول أكثر السلف /وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه كأبي بكر عبد العزيز، والقاضي أبي يعلى، وأصحابه‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن جمع الثلاث ليس بمحرم؛ بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها الخرقي‏.‏ واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثًا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثًا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثًا، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك‏.‏
وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا مجتمعات‏.‏ وقول الصحابي‏:‏ طلق ثلاثًا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها‏.‏ وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثًا‏.‏ وأما جمع الثلاث بكلمة، فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال‏:‏ يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا؛ بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل‏.‏
وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدًا لموجب اللعان / والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح‏.‏ والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثًا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها؛ إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال‏:‏ حرمها عليه تحريمًا مؤبدًا، فيقال‏:‏ فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعًا، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما، وقول سهل بن سعد‏:‏ طلقها ثلاثًا، فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم، واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق؛ إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجًا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة‏.‏
واستدل الأكثرون بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏}‏ إلى قوله ‏{‏لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1، 2‏]‏، وهذا إنما يكون في الرجعي وقوله ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏، يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة‏.‏ أي‏:‏ لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين‏.‏ فإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاَس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر؛ فإن هذا قول ضعيف؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن حاجة إلى أن يراجعها، والله ـ تعالى ـ قصرهم على الطلاق الثلاث دفعًا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار، ودل على أنه كان مستقرًا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة، سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة، فلا/ يكون طلاق إلا يتعقبه عدة؛ إذ كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد‏.‏ وأما من أخذ بمقتضي القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول‏:‏ إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلا يكون جائزًا، فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة؛ ولأنه قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان‏.‏
وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق، ثم قال‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، أي هذا الطلاق المذكور ‏{‏مَرَّتَانِ‏}‏‏.‏ وإذا قيل‏:‏ سبح مرتين‏.‏ أو ثلاث مرات، لم يجزه أن يقول‏:‏ سبحان الله مرتين، بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، فكذلك لا يقال‏:‏ طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة، فإذا قال‏:‏ أنت طالق ثلاثًا‏.‏ أو مرتين، لم يجز أن يقال‏:‏ طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؛ ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين‏.‏
وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع‏.‏ ودلائل تحريم الثلاث /كثيرة قوية‏:‏ من الكتاب والسنة، والآثار، والاعتبار، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح منه قدر الحاجة كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول‏:‏ ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول‏:‏ ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول‏:‏ أنت‏!‏ أنت‏!‏ ويلتزمه‏)‏‏.‏ وقد قال ـ تعالى ـ في ذم السحر‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏)‏‏.‏ وفي السنن ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏)‏ ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر‏.‏
الأصل الثاني‏:‏ أن الطلاق المحرم الذي يسمي طلاق البدعة إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا‏؟‏ فيه نزاع بين السلف والخلف‏.‏ والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا يقع‏.‏ مثل طاووس، وعكرمة‏.‏ وخِلاَس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج ابن أرطاة، وأهل الظاهر /كداود، وأصحابه‏.‏ وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروي عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر‏:‏ داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث‏.‏ ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلات إذا أوقعها جميعاً، بل يقع منها واحدة، ولم يعرف قوله في طلاق الحائض، ولكن وقوع الطلاق جميعاً قول طوائف من أهل الكلام والشيعة‏.‏ ومن وهؤلاء وهؤلاء من يقول‏:‏ إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلاً، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها، وأنه لا يقع إلا واحدة‏.‏ ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك‏.‏ وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع‏.‏ وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت‏:‏ أنه يقع‏.‏ وروي ذلك عن زيد‏.‏
وأما جمع الثلاث فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة‏:‏ روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة‏.‏ وعمران بن حصين، وغيرهم‏.‏ وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرًا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضًا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
/قال أبو جعفر أحمد بن مغيث في كتابه الذي سماه المقنع في أصول الوثائق‏.‏ وبيان ما في ذلك من الدقائق‏:‏ وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق‏.‏ ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق‏؟‏ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنهما ـ‏:‏ يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وذلك لأن قوله‏:‏ ثلاثًا لا معنى له‏:‏ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرًا عما مضى فيقول‏:‏ طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح‏.‏ ولو طلقها مرة واحدة فقال‏:‏ طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبًا، وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله فقال‏:‏ أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلف إلا يميناً واحدة، والطلاق مثله‏.‏ قال‏:‏ ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف روينا ذلك كله عن ابن وضَّاح ـ يعني الإمام محمد بن وضَّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيي ابن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم ـ قال‏:‏ وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدي، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة‏.‏ وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس‏.‏
قلت‏:‏ وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن /مالك، وكان يفتي بذلك أحيانًا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم‏.‏ وفي رواية‏:‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ هات من هناتك‏!‏ ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة‏؟‏ قال‏:‏ قد كان ذلك‏.‏ فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه‏.‏
والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدًا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك‏:‏ مثل حديث يروي عن علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
وأقوي ما ردوه به أنهم قالوا‏:‏ ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث‏.‏
/وجواب المستدلين أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة ـ أيضًا ـ أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمرفوع أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده‏:‏ حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولي ابن عباس، قال‏:‏ طلق ركانة بن عبد يزيد ـ أخو بني المطلب ـ امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا قال‏:‏ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف طلقتها‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ طلقتها ثلاثًا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏في مجلس واحد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإنها تلك واحدة فارجعها إن شئت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فراجعها‏.‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ إنما الطلاق عند كل طهر‏.‏
قلت‏:‏ وهذا الحديث قال فيه ابن اسحاق‏:‏ حدثني داود ـ وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري؛ وابن إسحاق ـ إذا قال‏:‏ حدثني‏.‏ فهو ثقة عند أهل الحديث‏.‏ وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في السنن، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد؛ فلذلك ظن أن تطليقه واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك، وهو كما قال أحمد‏.‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر‏.‏
/وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ونافع بن عجين‏:‏ أنه طلقها البتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه، فقال‏:‏ ما أردت إلا واحدة‏.‏ فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حديث ركانة في البتة ليس بشيء‏.‏ وقال ـ أيضا ـ‏:‏ حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، وأهل المدينة يسمون ثلاثا البتة‏.‏ فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ، وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق‏:‏ حدثني داود ابن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء‏.‏ وبهذا الإسناد روي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول، وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء‏.‏ وابن إسحاق إذا قال‏:‏ حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روي أبو داود في سننه هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس‏:‏ أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه‏.‏
/وكان أحمد يري جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال‏:‏ تدبرت القرآن فرجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي‏.‏ أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات، لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة‏.‏ وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولاً لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الإلزام بالثلاث‏.‏ وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم‏.‏
/وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا‏:‏ إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق، وعمر بن الخطاب ـ ومن وافقه كمالك وأحمد في إحدى الروايتين ـ حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدًا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه‏:‏ إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، وإما أن يكون رآه شرعًا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلاً‏.‏
وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة‏:‏ هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع‏؟‏ أو كان قد نهي عن الفسخ؛ لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة‏؟‏ وعلى التقديرين، فالصحابة قد /نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشوري وغيرهم‏:‏ في المتعة وفي الإلزام بالثلاث‏.‏ وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، كما أن عمر كان يري أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما عمار وأبو موسي وابن عباس وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر‏.‏ والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به‏.‏
والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون‏:‏ هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء ـ كمالك، والشافعي وأحمد، وغيرهم ـ وهو‏:‏ أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمة‏:‏ كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة، فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، وأوجب فيه الكفارة‏.‏ أما الطلاق فجنسه مشروع ـ كالنكاح والبيع ـ فهو يحل تارة، ويحرم تارة، /فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح‏.‏ والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، كان مقتضي ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار، كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة ـ مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏
ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا‏:‏ هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك‏.‏ ومن نازعهم يقول‏:‏ مازال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها؛ فإن الاعتبار بما رووه؛ لا بما رأوه وفهموه‏.‏ وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله‏:‏ ‏(‏فاقدروا له‏)‏، وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث البيعين بالخيار‏.‏ مع أن قوله هو ظاهر الحديث‏.‏ وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، وقوله‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا‏.‏ وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس‏:‏ أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روي حديث بريرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه‏.‏
/ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا‏:‏ لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضي الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع؛ لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتًا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق‏.‏
قال المستدلون‏:‏ هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون‏:‏ جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة، أو يقع ثلاثا‏؟‏ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعًا لازما للأمة حجة يجب اتباعها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه‏.‏
/وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصي الله بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم ألا يعود إلى المحرم، فهذا لا يستحق أن يعاقب وليس في الأدلة الشرعية ـ الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس ـ ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله‏.‏
ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ولعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له‏.‏ والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه؛ فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو /مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشهاد على النكاح حديث صحيح‏.‏ هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره‏.‏
فلما لم يكن على عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ تحليل ظاهر، ورأي في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم، فعل ذلك باجتهاده‏.‏ أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم ـ بالنص وإجماع الصحابة والاعتقاد ـ وغير ذلك من المفاسد لم يجز أن يزال مفسدة حقيقة بمفاسد أغلظ منها بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أولي؛ ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة‏.‏ وهذا‏:‏ إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس‏.‏ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارة لازما‏.‏ وتارة غير لازم‏.‏
وبالجملة، فما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعا لازما، إنما لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال، كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك، /لم يقره المسلمون على ذلك؛ فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة ـ كعيسي بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك ـ أن الإجماع ينسـخ به نصوص الكتاب والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك، فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصاري من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم‏.‏ ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد‏.‏
وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة‏.‏ وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر‏:‏ أنه ذكر أن الله أغني عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط‏.‏ ولكن عمر استغني في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم، ونحو ذلك‏.‏
/ومتعة الحج قد روي عن عمر أنه نهي عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون‏:‏ لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه‏:‏ أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره، فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا‏:‏ إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي‏.‏ وآخرون من السلف والخلف ـ قابلوا هذا، وقالوا‏:‏ بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعًا‏:‏ مبتدأ، أو فاسخا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أن الفسخ جائز، وهو أفضل‏.‏ ويجوز ألا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ‏.‏ فأما حج المفرد والقارن، ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة‏.‏
/وعمر لما نهي عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر على على ابن عباس إباحة المتعة، قال‏:‏ إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه على ذلك، وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية، ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية‏.‏ وأما تحريم المتعة فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح‏.‏ وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك‏.‏
فقول عمر بن الخطاب‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أنفذناه عليهم فأنفذه عليهم، هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ؛ لكون ذلك كان ذلك مخصوصا بالصحابة وهو باطل؛ فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك‏.‏ وبهذا ـ أيضا ـ تبطل دعوي من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء‏.‏ وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا، /وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثانية هي مع من أنكره‏.‏ وهكذا الإلزام بالثلاث‏.‏ من جعل قول عمر فيه شرعا لازما‏.‏ قيل له‏:‏ فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح‏.‏
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين من جهة أن العقوبة بذلك‏:‏ هل تشرع أم لا‏؟‏ فقد يري الإمام أن يعاقب بنوع لا يري العقوبة به غيره، كتحريق على الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس‏.‏ ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل اللّه له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة‏.‏ ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم ألا يطلق إلا طلاقا سنياً، فإنه من المتقين في باب الطلاق‏.‏ فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة‏.‏ وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين، وإنما نبهنا عليها هاهنا تنبيها لطيفًا‏.‏
والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين‏:‏ إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر‏.‏ وإما /لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم‏.‏ وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا، كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي‏.‏ وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضًا، إذا كان ممن اتقى اللّه وتاب من البدعة‏.‏