فصل الطلاق في الحيض وممشأ النزاع في وقوعه
 
فصل
وأما الطلاق في الحيض، فمنشأ النزاع في وقوعه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب لما أخبره أن عبد اللّه بن عمر طلق امرأته وهي حائض‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها، حتى تحيض، ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر‏)‏‏.‏ فمن العلماء من فهم من قوله‏:‏ ‏(‏فليراجعها‏)‏، أنها رجعة المطلقة‏.‏ وبنوا على هذا أن المطلقة في الحيض يؤمر برجعتها مع وقوع الطلاق‏.‏ وهل هو أمر استحباب، أو أمر إيجاب‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ والاستحباب مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏ والوجوب مذهب مالك‏.‏ وهل يطلقها في الطهر الأول الذي يلي حيضة الطلاق، أولا يطلقها إلا في طهر من حيضة ثانية‏؟‏ على قولين أيضا، هما روايتان عن أحمد، ووجهان في قول أبي حنيفة‏.‏ وهل عليه أن يطأها قبل الطلاق الثاني‏؟‏ جمهورهم لا يوجبه، ومنهم من يوجبه، وهو وجه في مذهب أحمد، وهو قوي على قياس قول من يوقع الطلاق، لكنه ضعيف في الدليل‏.‏
/وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض‏:‏ هل هو تطويل العدة، كما يقوله أصحاب مالك والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد‏؟‏ أو لكونه حال الزهد في وطئها، فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء؛ لكون الطلاق ممنوعا لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد‏؟‏ أو هو تعبد لا يعقل معناه، كما يقوله بعض المالكية‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏
ومن العلماء من قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، لا يستلزم وقوع الطلاق بل لما طلقها طلاقا محرما حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها؛ لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردها إلى ما كانت، كما قال في الحديث الصحيح لمن باع صاعا بصاعين‏:‏ ‏(‏هذا هو الربا، فرده‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين، فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، ورد أربعة للرق‏.‏ وفي السنن عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول، فهذا رد لها‏.‏ وأمر علي بن أبي طالب أن يرد الغلام الذي باعه دون أخيه‏.‏ وأمر بشيراً أن يرد الغلام الذي وهبه لابنه‏.‏ ونظائر هذا كثيرة‏.‏
ولفظ المراجعة تدل على العود إلى الحال الأول‏.‏ ثم قد يكون ذلك بعقد جديد، كما في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وقد يكون برجوع بدن كل منهما إلى صاحبه وإن لم يحصل هناك طلاق، كما إذا /أخرج الزوجة أو الأمة من داره فقيل له‏:‏ راجعها؛ فأرجعها كما في حديث على‏:‏ حين راجع الأمر بالمعروف‏.‏ وفي كتاب عمر لأبي موسى وأن تراجع الحق فإن الحق قديم‏.‏
واستعمال لفظ المراجعة يقتضي المفاعلة‏.‏ والرجعة من الطلاق يستقل بها الزوج بمجرد كلامه، فلا يكاد يستعمل فيها لفظ المراجعة، بخلاف ما إذا رد بدن المرأة إليه فرجعت باختيارها، فإنهما قد تراجعا، كما يتراجعان بالعقد باختيارهما بعد أن تنكح زوجا غيره‏.‏ وألفاظ الرجعة من الطلاق هي الرد، والإمساك‏.‏ وتستعمل في استدامة النكاح، كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه أَمْسِكْ عليكَ زَوْجَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، ولم يكن هناك طلاق، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، والمراد به الرجعة بعد الطلاق‏.‏ والرجعة يستقل بها الزوج، ويؤمر فيها بالإشهاد‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن عمر بالإشهاد، وقال‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، ولم يقل‏:‏ ليرتجعها‏.‏
وأيضا، فلو كان الطلاق قد وقع، كان ارتجاعها ليطلقها في الطهر الأول أو الثاني زيادة وضرراً عليها، وزيادة في الطلاق المكروه، فليس في ذلك مصلحة لا له ولا لها، بل فيه إن كان الطلاق قد وقع بارتجاعه ليطلق مرة ثانية زيادة ضرر، وهو لم يمنعه عن الطلاق، بل أباحه له في استقبال /الطهر مع كونه مريداً له، فعلم أنه إنما أمره أن يمسكها، وأن يؤخر الطلاق إلى الوقت الذي يباح فيه، كما يؤمر من فعل شيء قبل وقته أن يرد ما فعل ويفعله إن شاء في وقته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، والطلاق المحرم ليس عليه أمر اللّه ورسوله فهو مردود‏.‏ وأمره بتأخير الطلاق إلى الطهر الثاني ليتمكن من الوطء في الطهر الأول، فإنه لو طلقها فيه لم يجز أن يطلقها إلا قبل الوطء، فلم يكن في أمره بإمساكها إليه إلا بزيادة ضرر عليها إذا طلقها في الطهر الأول‏.‏
وأيضا، فإن ذلك معاقبة له على أن يعمل ما أحله اللّه، فعوقب بنقيض قصده، وبسط الكلام في هذه المسألة، واستيفاء كلام الطائفتين له موضع آخر‏.‏ وإنما المقصود هنا التنبية على الأقوال ومأخذها‏.‏ لا ريب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعي على زواله بالطلاق المحرم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك، واللّه أعلم‏.‏