فصل أيمان المسلمين
 
فصل
النوع الثاني‏:‏ أيمان المسلمين، فإن حلف باسم اللّه فهي أيمان منعقدة بالنص والإجماع، وفيها الكفارة إذا حنث‏.‏ وإذا حلف بما يلتزمه للّه كالحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق مثل أن يقول‏:‏ إن فعلت كذا فعلى عشر حجج، أو فمإلى صدقة، أو‏:‏ على صيام شهر‏.‏ أو‏:‏ فنسائي طوالق، أو عبيدي أحرار، أو يقول‏:‏ الحل على حرام لا أفعل كذا‏.‏ أو‏:‏ /الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا وكذا‏.‏ أو إلا فعلت كذا‏.‏ وإن فعلت كذا فنسائي طوالق‏.‏ أو عبيدي أحرار، ونحو ذلك، فهذه الأيمان أيمان المسلمين عند الصحابة وجمهور العلماء، وهي أيمان منعقدة‏.‏ وقال طائفة‏:‏ بل هو من جنس الحلف بالمخلوقات، فلا تنعقد‏.‏ والأول أصح، وهو قول الصحابة؛ فإن عمر وابن عمر وابن عباس وغيرهم كانوا ينهون عن النوع الأول، وكانوا يأمرون من حلف بالنوع الثاني أن يكفر عن يمينه، ولا ينهونه عن ذلك، فإن هذا من جنس الحلف باللّه والنذر للّه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كفارة النذر كفارة يمين‏)‏‏.‏
فقول القائل‏:‏ للّه على أن أفعل كذا‏.‏ إن قصد به اليمين فهو يمين كما لو قال‏:‏ للّه على كذا، أو أن أقتل فلانا، فعليه كفارة في مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وهو الذي ذكره الخراسانيون في مذهب الشافعي‏.‏ فالذين قالوا‏:‏ هذا يمين منعقدة، منهم من ألزم الحالف بما التزمه، فألزمه إذا حنث بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام، وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة‏.‏ ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما، وهو المعروف عن الشافعي‏.‏ ومنهم من فرق بين النذر وغيره، وهو المشهور عن أحمد، ومنهم من فرق بين الطلاق وغيرها، وهو أبو ثور‏.‏ والصحيح أن هذه الأيمان كلها فيها كفارة إذا حنث، ولا يلزمه إذا حنث لا نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام‏.‏ وهذا معني أقوال الصحابة، فقد ثبت النقل عنهم صريح بذلك في الحلف بالعتق والنذر‏.‏ وتعليلهم‏.‏ وعموم كلامهم /يتناول الحلف بالطلاق وقد ثبت عن غير واحد من السلف أنه لا يلزم الحلف بالطلاق طلاقا كما ثبت عن طاوس، وعكرمة، وعن أبي جعفر، وجعفر بن محمد‏.‏ ومن هؤلاء من ألزم الكفارة، وهو الصحيح‏.‏ ومنهم من لم يلزمه الكفارة‏.‏
فللعلماء في الحلف بالطلاق أكثر من أربعة أقوال قيل‏:‏ يلزمه مطلقا، كقول الأربعة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يلزمه مطلقا، كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم، وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ إن قصد به اليمين لم يلزمه، وهو أصح الأقوال، وهو معني قول الصحابة اليمين‏.‏
ففي لزوم الكفارة قولان‏:‏ أصحهما أنه يلزمه إذا كانت اليمين على مستقبل، فإن كانت اليمين على ماض أو حاضر قصده به الخبر ـ لا الحض والمنع ـ كقوله‏:‏ واللّه لقد فعلت كذا، أو لم أفعله، وقوله‏:‏ الطلاق يلزمنى لقد فعلت كذا، أو لم أفعله‏.‏ أو الحل على حرام لقد فعلت كذا، فهذا إما أن يكون معتقداً صدق نفسه، أو يعلم أنه كاذب‏.‏ فإن كان يعتقد صدق نفسه ففيه ثلاثة أقوال‏.‏
أحدها‏:‏ لا يلزمه شيء في جميع هذه الأيمان؛ وهذا أظهر قولي الشافعي؛ والرواية الثانية عن أحمد‏.‏ فمن حلف بالطلاق والعتاق أو غيرهما /على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا شيء عليه على هذا القول، وهذا أصح الأقوال‏.‏
والثاني‏:‏ يكون كالحلف على المستقبل في الجميع، وهذا هو القول الثاني للشافعي، والرواية الثانية عن أحمد‏.‏ فعلى هذا تلزمه الكفارة فيما يكفره‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أن يمينه إذا كانت مكفرة كالحلف بسم اللّه فلا شيء عليه، بل هذا من لغو اليمين، وإن كانت غير مكفرة كالحلف بالطلاق والعتاق لزمه ذلك، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور‏.‏
فإذا كانت اليمين غموسا ـ وهو أن يحلف كاذبا عالما بكذب نفسه ـ فهذه اليمين يأثم بها باتفاق المسلمين، وعليه أن يستغفر اللّه منها، وهي كبيرة من الكبائر، لاسيما إن كان مقصوده أن يظلم غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللّه وهو عليه غضبان‏)‏‏.‏ ثم إن كانت مما يكفر، ففيها كفارة عند الشافعي وأحمد في رواية، وأما الأكثرون فقالوا‏:‏ هذه أعظم من أن تكفر، وهذا قول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ قالوا‏:‏ والكبائر لا كفارة فيها كما لا كفارة في السرقة، والزنا، وشرب الخمر، وكذلك قتل العمد لا كفارة فيه عند الجمهور‏.‏
/وإذا حلف بالتزام يمين غموس، كالصورة التي سأل عنها السائل مثل أن يقول‏:‏ الحل عليه حرام ما فعلت كذا، أو الطلاق يلزمنى ما فعلت كذا‏.‏ أو إن فعلت كذا، فمالي صدقة، أو فعلى الحج، أو فنسائي طوالق‏.‏ أو عبيدي أحرار، فقيل‏:‏ تلزمه هذه اللوازم إذا قلنا لا كفارة في الغموس، وإن قلنا‏:‏ هذه أيمان مكفرة في المستقبل؛ لأنه لو لم يلزمه ذلك لخلت هذه الأيمان عن الكفارة، ولزوم ما التزمه، وهو اختيار جدي أبي البركات وكذلك قال محمد بن مقاتل الرازي‏:‏ من حلف بالكفر يمينا غموسا كفر‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أن هذا كاليمين الغموس بالله، هي من الكبائر، ولا يلزمه ما التزمه من النذر والطلاق والحرام، وهو أصح القولين‏.‏ وعلى هذا القول فكل من لم يقصده لم يلزمه نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام، سواء كانت اليمين منعقدة أو كانت غموسا، أو كانت لغواً، وإنما يلزم الطلاق والعتاق والنذر لمن قصد ذلك؛ فإن التعليق نوعان‏:‏ نوع يقصد به وقوع الجزاء إذا وقع الشرط، فهذا تعليق لازم‏.‏ فإذا علق النذر أو الطلاق أو العتاق على هذا الوجه لزمه‏.‏
فإذا قال لامرأته‏:‏ إذا تطهرت من الحيض فأنت طالق، أو إذا تبين حملك فأنت طالق، وقع بها الطلاق عند الصفة، وكذلك إذا علقه بالهلال، وكذلك لو نهاها عن أمر وقال‏:‏ إن فعلته فأنت طالق ـ وهو إذا فعلته يريد أن يطلقها ـ فإنه يقع به الطلاق، ونحو هذا‏.‏
/بخلاف مثل أن ينهاها عن فاحشة أو خيانة أو ظلم فيقول‏:‏ إن فعلتيه أنت طالق‏.‏ فهو وإن كان يكره طلاقها، لكن إذا فعلت ذلك المنكر كان طلاقها أحب إليه من أن يقيم معها على هذا الوجه، فهذا يقع به الطلاق، فقد ثبت عن الصحابة أنهم أوقعوا الطلاق المعلق بالشرط إذا كان قصده وقوعه عند الشرط، كما ألزموه بالنذر، بخلاف من كان قصده اليمين‏.‏
والذي قصده اليمين هو مثل الذي يكره الشرط ويكره الجزاء وإن وقع الشرط، مثل أن يقول‏:‏ إن سافرت معكم فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعلى عشر حجج، وأنا بريء من دين الإسلام، ونحو ذلك فهذا مما يعرف قطعا أنه لا يريد أن تلزمه هذه الأمور، وإن وجد الشرط، فهذا هو الحالف‏.‏ فيجب الفرق في جميع التعليقات، ومن قصده وقوع الجزاء ومن قصده اليمين، فإذا طلق امرأته طلاقا منجزا، أو معلقا بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها، وقع به الطلاق إذا كان حلالا، وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه، أو حامل قد تبين حملها‏.‏
وأما الطلاق الحرام، كما لو طلق في الحيض، أو الطهر بعد أن وطأها وقبل أن يتبين حملها، ففيه نزاع، والأظهر أنه لا يلزم، كما لا يلزم النكاح المحرم ونحوه‏.‏ وجمع الثلاث حرام عند الجمهور‏.‏ فإذا طلق ثلاثا‏:‏ فهل يلزمه الثلاث، أو واحدة‏؟‏ ففيه قولان، أظهرهما أنه لا يلزمه إلا واحدة، وقد بسطنا الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه أعلم‏.‏