الألفاظ التي يتكلم بها الناس في الطلاق
 
والألفاظ التي يتكلم بها الناس في الطلاق ثلاثة أنواع‏:‏
صيغة التنجيز‏.‏ والإرسال‏:‏ كقوله‏:‏ أنت طالق، أو مطلقة، فهذا يقع به الطلاق باتفاق المسلمين‏.‏
الثاني‏:‏ صيغة قسم، كقوله‏:‏ الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا‏.‏ أو لا أفعل كذا، فهذا يمين باتفاق أهل اللغة، واتفاق طوائف الفقهاء، واتفاق العامة، واتفاق أهل الأرض‏.‏
الثالث‏:‏ صيغة تعليق، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فامرأتي طالق‏.‏ فهذه إن كان قصده به اليمين ـ وهو الذي يكره وقوع الطلاق مطلقًا كما يكره /الانتقال عن دينه ـ إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو يقول اليهودي‏:‏ إن فعلت كذا فأنا مسلم، فهو يمين حكمه حكم الأول الذي هو بصيغة القسم باتفاق الفقهاء‏.‏
فإن اليمين هي ما تضمنت حضًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا بالتزام ما يكره الحالف وقوعه عند المخالفة‏.‏ فالحالف لا يكون حالفًا إلا إذا كره وقوع الجزاء عند الشرط‏.‏ فإن كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط لم يكن حالفًا، سواء كان يريد الشرط وحده ولا يكره الجزاء عند وقوعه، أو كان يريد الجزاء عند وقوعه غير مريد له، أو كان مريدًا لهما‏.‏ فأما إذا كان كارهًا للشرط وكارهًا للجزاء مطلقًا ـ يكره وقوعه، وإنما التزمه عند وقوع الشرط ليمنع نفسه أو غيره ما التزمه من الشرط، أو ليحض بذلك ـ فهذا يمين‏.‏
وإن قصد إيقاع الطلاق عند وجود الجزاء كقوله‏:‏ إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، وإذا طهرت فأنت طالق، وإذا زنيت فأنت طالق، وقصده إيقاع الطلاق عند الفاحشة، لا مجرد الحلف عليها، فهذا ليس بيمين، ولا كفارة في هذا عند أحد من الفقهاء فيما علمناه، بل يقع به الطلاق إذا وجد الشرط عند السلف وجمهور الفقهاء‏.‏
/فاليمين التي يقصد بها الحض، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب ـ بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه ـ سواء كانت بصيغة القسم، أو بصيغة الجزاء، يمين عند جميع الخلق من العرب وغيرهم؛ فإن كون الكلام يمينًا مثل كونه أمرًا أو نهيا وخبرًا‏.‏ وهذا المعنى ثابت عند جميع الناس، العرب وغيرهم، وإنما تتنوع اللغات في الألفاظ، لا في المعاني، بل ما كان معناه يمينًا أو أمرًا أو نهيا عند العجم فكذلك معناه يمين أو أمر أو نهي عند العرب‏.‏ وهذا ـ أيضًا ـ يمين الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو يمين في العرف العام، ويمين عند الفقهاء كلهم‏.‏
وإذا كان يمينًا فلـيس في الكتاب والسنة لليمين إلا حكمـان‏:‏ إمـا أن تكون اليمين منعقـدة محترمة ففيها الكفارة، وإما ألا تكون منعقدة محترمة ـ كالحلف بالمخلوقات‏:‏ مثل الكعبة، والملائكة، وغير ذلك ـ فهذا لا كفارة فيه بالاتفاق‏.‏ فأما يمين منعقدة، محترمة، غير مكفرة، فهذا حكم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم دليل شرعي سالم عن المعارض المقام‏.‏ فإن كانت هذه اليمين من أيمان المسلمين فقد دخلت في قوله تعالى للمسلمين‏:‏ ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، وإن لم تكن من أيمانهم، بل كانت من الحلف بالمخلوقات، فلا يجب بالحنث، لا كفارة ولا غيرها، فتكون مهدرة‏.‏
/فهذا ونحوه من دلالة الكتاب والسنة والاعتبار يبين أن الإلزام بوقوع الطلاق للحالف في يمينه حكم يخالف الكتاب والسنة، وحسب القول الآخر أن يكون مما يسوغ الاجتهاد‏.‏ فإما أن يقال‏:‏ إنه لم يجب على المسلمين كلهم العمل بهذا القول، ويحرم عليهم العمل بذلك القول، فهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين بعد أن يعرف ما بين المسلمين من النزاع والأدلة‏.‏ ومن قال بالقول المرجوح وخفي عليه القول الراجح، كان حسبه أن يكون قوله سائغًا لا يمنع من الحكم به والفتيا به‏.‏
أما إلزام المسلمين بهذا القول، ومنعهم من القول الذي دل عليه الكتاب والسنة، فهذا خلاف أمر الله ورسوله وعباده المؤمنين من الأئمة الأربعة وغيرهم‏.‏ فمن منع الحكم والفتيا بعدم وقوع الطلاق وتقليد من نفي بذلك فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، ولا يفعل ذلك إلا من لم يكن عنده علم، فهذا حسبه أن يعذر، لا يجب اتباعه، ومعاند متبع لهواه لا يقبل الحق إذا ظهر له، ولا يصغي لمن يقوله ليعرف ما قال، بل يتبع هواه بغير هدي من الله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، فإنه‏:‏ إما مقلد، وإما مجتهد‏.‏ فالمقلد لا ينكر القول الذي يخالف متبوعه إنكار من يقول هو باطل فإنه لا يعلم أنه باطل، فضلاً عن أن يحرم القول به، ويوجب القول بقول سلفه‏.‏ والمجتهد ينظر ويناظر، وهو مع ظهور قوله لا يسوغ قول منازعيه الذي ساغ فيه الاجتهاد، وهو ما لم يظهر أنه خالف نصًا ولا إجماعًا، فمن خرج عن حد /التقليد السائغ والاجتهاد، كان فيه شبه من الذين ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 170‏]‏، وكان ممن اتبع هواه بغير هدى من الله‏.‏
ومن قال إنه اتبع هذه الفتيا فولد له ولد بعد ذلك فهو ولد زنا، كان هذا القائل في غاية الجهل والضلال، والمشاقة لله ولرسوله‏.‏
وعلى الجملة، إذا كان الملتزم به قربة لله تعالى يقصد به القرب إلى الله تعالى، لزمه فعله، أو الكفارة‏.‏ ولو التزم ما ليس بقربة، كالتطليق، والبيع، والإجارة ومثل ذلك ـ لم يلزمه، بل يجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور المسلمين، وهو قول الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وقول المحققين من أصحاب مالك؛ لأن الحلف بالطلاق على وجه اليمين يكره وقوعه إذا وجد الشرط، كما يكره وقوع الكفر، فلا يقع، وعليه الكفارة‏.‏ والله أعلم‏.‏