سئل: عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة؟
 
وسئل شيخ الإسلام ـ رَحمه الله ـ عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة، هل القول قولها، أم قول الرجل‏؟‏ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين‏؟‏ والمسؤول‏:‏ بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما‏.‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة، ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي‏:‏ أنت ما أنفقت على ولا كسوتني، بل حصل ذلك من غيرك، وقال هو‏:‏ بل النفقة والكسوة كانت مني، ففيها قولان للعلماء‏:‏
أحدهما‏:‏ القول قوله، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها، فيقول هو‏:‏ أنا علمتها وتقول هي‏:‏ أنا تعلمتها من غيره، ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد، والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة، وهو مذهب مالك‏.‏ وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليها شيء ا؛ لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده، كنفقة الأقارب، وهو قول في مذهب أحمد‏.‏ وأصحاب هذا القول يقولون‏:‏ /وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان، والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون‏:‏ وجبت بطريق المعارضة، فلا تسقط بمضي الزمان‏.‏
ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم المقبوض، كما لو تنازعا في قبض الصداق والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه، وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه‏:‏
أحدها‏:‏ أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك، ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك، لكانت الهمم متوفرة على دعوي النساء، وذلك كما هو الواقع، فعلم أنه كان مستقرا بينهم، أنه لا يقبل قولها‏.‏
الثاني‏:‏ أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة، فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها، وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل، ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف‏.‏
/الثالث‏:‏ أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه، كالإشهاد على الوطء، فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور، مع أن الأصل عدمه، بل إما أن يكون القول قول الرجل، أو يؤمر بإخراج المني، أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء‏.‏ على ما للعلماء في ذلك من النزاع، فهنا دعواها وافقت الأصل، ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك‏.‏ والإنفاق في البيوت بهذه المثابة، ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة، فإن هذا بدعة في الدين، وحرج على المسلمين، واتباع لغير سبيل المؤمنين‏.‏
الرابع‏:‏ أن العلماء متنازعون‏:‏ هل يجب تمليك النفقة‏؟‏ على قولين‏.‏ والأظهر أنه لا يجب، ولا يجب أن يفرض لها شيء اً، بل يطعمها ويكسوها بالمعروف‏.‏ وهذا القول هو الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في النساء‏:‏ ‏(‏لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏)‏، كما في المملوك، ‏(‏وكسوته بالمعروف‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏حقها أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت‏)‏ كما قال في المماليك‏:‏ ‏(‏إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس‏)‏‏.‏ هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها‏.‏
/وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها، كما له ولاية الإنفاق على رقيقه وبهائمه، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏، وقال زيد بن ثابت‏:‏ الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 25‏]‏، وقال عمر ابن الخطاب‏:‏ النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته‏.‏ ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏، فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل، والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله، فهو مؤتمن عليها، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها، وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، فإذا كان الزوج مؤتمنا عليها، وله عليها ولاية، كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه، كما يقبل قول الولي في الإنفاق على اليتيم، وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة‏.‏ وإن كان في ذلك معني المعاوضة‏.‏ وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة، والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين‏.‏
/وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف، وادعت أنه لم يعطها نفقة قبل قولها مع يمينها في هذه الصورة، لأن الشارع سلطها على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند‏:‏ ‏(‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏ لما قالت‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال‏:‏ ‏(‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏‏.‏
وكذلك لو كان الزوج مسافراً عنها مدة وهي مقيمة في بيت أبيها وادعت أنه لم يترك لها نفقة، ولا أرسل إليها بنفقة، فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك‏.‏ فلابد من التفصيل في الماضي مطلقًا في هذا الباب‏.‏ وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة، فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة، ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيء ا، وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا، وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان، والظلم والعدوان‏.‏
الوجه الخامس‏:‏ أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوي المتداعيين، سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية؛ ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كالأيمان في القسامة، وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعي عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه؛ ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه، فيحكم للمرأة بمتاع النساء /وللرجل بمتاع الرجال، وإن كانت اليد الحسية منها ثابتة على هذا وهذا؛ لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه‏.‏ وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة‏.‏
الوجه السادس‏:‏ أن هذه المرأة لابد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي، وذلك إما أن يكون من الزوج، وإما أن يكون من غيره‏.‏ والأصل عدم غيره، فيكون منه، كما قلنا في أصح الوجهين‏:‏ إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها؛ لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك، وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها‏؟‏ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة‏.‏ ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمي الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثراً غير سهمه أنه يأكله؛ لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه، بخلاف ما إذا تردي في ماء، أو خالط كلبه كلاب أخرى، فإن تلك لأس
باب شاركت في الزهوق، وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا‏.‏