سئل: عن جماعة من المسلمين اجتمع رأيهم على أكل الغبيراء مع اعتقادهم أنها معصية؟
 
/وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن جماعة من المسلمين رجال كهول وشبان، وهم حجاج مواظبون على أداء ما افترض عليهم من صوم، وصلاة، وعبادة‏.‏ وفيهم كبير القدر معروفون بالثقة والأمانة بين المسلمين في أقوالهم وأفعالهم، ليس عليهم شيء من ظواهر السوء والفسوق، وقد اجتمعت عقولهم وأذهانهم ورأيهم على أكل الغبيراء، وكان قولهم واعتقادهم فيها أنها معصية وسيئة، غير أنهم مع ذلك يقولون في اعتقادهم بدليل كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏، وذكروا ـ أيضًا ـ أنها حرام، غير أن لهم وردًا بالليل وتعبدات، ويزعمون أنها إذا حصلت نشوتها برؤوسهم تأمرهم بتلك العبادة، ولا تأمرهم بسوء ولا فاحشة، ونسبوا أنه ليس لها ضرر لأحد من خلق الله ـ تعالى ـ كالزنا وشرب الخمر والسرقة، وأنه لا يجب على من أكلها حد من الحدول، إلا أنها تتعلق بمخالفة أمر من أمور الله ـ سبحانه وتعالى ـ والله يغفر ما بين العبد وربه‏.‏ واجتمع بهم رجل صادق القول، وذكر عنهم ذلك، ووافقهم على أكلها بحكمهم عليه، وحديثهم له، واعترف على نفسه بذلك‏:‏ فهل يجب على آكلها حد شارب الخمر أم لا‏؟‏ أفتونا‏.‏
/فأجاب‏:‏
الحمد لله رب العالمين، نعم يجب على آكلها حد شارب الخمر‏.‏ وهؤلاء القوم ضلال جهال عصاة لله ولرسوله، وكفي برجل جهلا أن يعرف بأن هذا الفعل محرم، وأنه معصية لله ولرسوله، ثم يقول‏:‏ إنه تطيب له العبادة، وتصلح له حاله‏!‏‏!‏‏!‏ ويح هذا القائل‏!‏ أيظن أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على الخلق ما ينفعهم، ويصلح لهم‏؟‏ ‏!‏ نعم، قد يكون في الشيء منفعة وفية مضرة أكثر من منفعته فيحرمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن المضرة إذا كانت أكثر من المنفعة بقيت الزيادة مضرة محضة، وصار هذا الرجل كأنه قال لرجل‏:‏ خذ منى هذا الدرهم وأعطني دينارًا، فجهله يقول له‏:‏ هو يعطيك درهمًا فخذه، والعقل يقول‏:‏ إنما يحصل الدرهم بفوات الدينار، وهذا ضرر لا منفعة له، بل جميع ما حرمه الله ورسوله إن ثبت فيه منفعة ما فلابد أن يكون ضرره أكثر‏.‏
فهذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون‏:‏ من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة، فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة، فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن إضرار الناس‏.‏ وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه /فيها، بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش عقله حتى يسخو بماله، ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل‏.‏ ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله، لا عن عقل فيه‏.‏
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصاري، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف؛ ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله؛ لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضًا عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه، وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلاً، وذنوبه محيطة به، وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه‏.‏
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة، وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثًا، وإما مأبونا، وإما كلاهما، وتفسد الأمزجة /حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج، ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها، فإنه لابد أن يكون في عقله خبل، ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفي بالرجل شرًا أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها، وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر‏.‏ ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح شهوته، ما لا يورثه الخمر‏.‏ ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر؛ لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد، إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة، صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها، وإلا فلو ضرت الناس ولم تضره لم يحرمها، إذ الحاسد يضره حال المحسود، ولم يحرم الله اكتساب المعإلى لدفع تضرر الحاسد‏.‏ هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام‏)‏، وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ بعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع أن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها‏.‏ والله أعلم‏.