فصل: طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان
 
فصل
وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت‏.‏ وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم‏.‏ فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون، فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك‏.‏ وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن بالحق‏:‏ فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم‏:‏ هو محرم، وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك‏:‏ لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث في يمينه، ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك‏.‏ ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث في أيمانهم‏:‏ فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام، بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع أو نكاح أو إجارة أو غير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من العقود التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود‏.‏ والحنث في يمينه‏:‏ كان مفتريا على الله الكذب مفتيا بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر الله بالوفاء بها‏.‏ وهذا كما أن جمهور العلماء يقولون‏:‏ يمين المكره بغير حق لا ينعقد سواء كان بالله أو النذر أو الطلاق أو العتاق، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏ ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته ومناصحته وحلفهم على ذلك‏:‏ لم يجز لأحد أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك ويرخص لهم في الحنث في هذه الأيمان، لأن ما كان واجبا بدون اليمين فاليمين تقويه، لا تضعفه، ولو قدر أن صاحبها أكره عليها‏.‏ ومن أراد أن يقول بلزوم المحلوف مطلقا في بعض الأيمان، لأجل تحليف ولاة الأمور أحيانا‏.‏ قيل له‏:‏ وهذا يرد عليك فيما تعتقده في يمين المكره، فإنك تقول‏:‏ لا يلزم وإن حلف بها ولاة الأمور‏.‏ ويرد عليك في أمور كثيرة تفتي بها في الحيل، مع ما فيه من معصية الله تعالى ورسوله وولاة الأمور‏.‏ وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم‏:‏ بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدره‏)‏ قال‏:‏ وإن من أعظم الغدر‏.‏ يعني بإمام المسلمين‏.‏ وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم، ينقضون بيعته‏.‏ وفي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال‏:‏ اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة‏.‏ فقال‏:‏ إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خلع يدا لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‏)‏ وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية‏)‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية‏)‏ وفي لفظ ‏(‏ليس من أمتي من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يوفي لذي عهدها، فليس مني ولست منه‏)‏‏.‏
‏[‏فالأول‏]‏ هو الذي يخرج عن طاعة ولي الأمر، ويفارق الجماعة‏.‏ ‏[‏والثاني‏]‏ هو الذي يقاتل لأجل العصبية، والرياسة، لا في سبيل الله كأهل الأهواء‏:‏ مثل قيس ويمن‏.‏
‏[‏والثالث‏]‏ مثل الذي يقطع الطريق فيقتل من لقيه من مسلم وذمي، ليأخذ ماله وكالحرورية المارقين الذين قاتلهم علي بن أبي طالب الذي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏‏.‏ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر، وإن كان عبدا حبشيا كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة‏)‏، وعن أبي ذر قال‏:‏ ‏(‏أوصاني خليلي أن اسمعوا وأطيعوا، ولو كان حبشيا مجدع الأطراف‏)‏ وعن البخاري‏:‏ ‏(‏ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة‏)‏ وفي صحيح مسلم عن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع وهو يقول‏:‏ ‏(‏ولو استعمل عبدا يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏عبد حبشي مجدع‏)‏ وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك ‏؟‏ قال‏:‏ لا، ما أقاموا فيكم الصلاة لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة‏)‏ وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال ‏{‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين‏.‏ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا‏)‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به‏)‏ وفي الصحيحين عن الحسن البصري قال‏:‏ عاد عبد الله بن زياد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه فقال له معقل‏:‏ إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة‏)‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئا ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة‏)‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه‏.‏ والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‏)‏ وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا فقال‏:‏ ادخلوها‏.‏ فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون‏.‏ إنا فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها‏:‏ ‏(‏لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة‏)‏ وقال للآخرين قولا حسنا، وقال‏:‏ ‏(‏لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف‏)‏‏.‏