الأمام العام هو الذي يتولى إمامة الصلاة والجهاد
 
وَقَال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللّه روُحه‏:‏
اعلم أن اللّه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأكمل لأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعله علي شريعة من الأمر، وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون، وجعل كتابه مهيمناً علي ما بين يديه من الكتب، ومصدقا لها، وجعل له شرعة ومنهاجا، وشرع لأمته سنن الهدي، ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد‏.‏ كتاب يهدي به، وحديد ينصره، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقـوم الحقوق في العقود المالية والقبوض‏.‏ والحديد به تقوم الحدود علي الكافرين والمنافقين‏.‏
ولهذا كان في الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد، والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان، والحديد للأمراء والأجناد‏.‏ والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد؛ ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في عيادة المريض‏:‏ ‏(‏اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً‏)‏، وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوة سَنَامه الجهاد في سبيل الله ‏)‏‏.‏
/ولهذا جمع بينهما في مواضع من القرآن؛ كقوله تعالي‏:‏‏{‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، والصلاة أول أعمال الإسلام،وأصل أعمال الإيمان؛ ولهذا سماها إيمانا في قوله‏:‏ ‏{‏ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ أي‏:‏ صلاتكم إلي بيت المقدس‏.‏ هكذا نقل عن السلف، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏ فوصفهم بالمحبة التي هي حقيقة الصلاة، كما قال‏:‏ ‏{‏ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، فوصفهم بالشدة علي الكفار والضلال‏.‏
وفي الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إيمان بالله، وجهاد في سبيله‏)‏، فقيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم حج مبرور‏)‏، مع قوله في الحديث الصحيح ـ لما سأله ابن مسعود‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة في وقتها‏)‏، قال ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏)‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏[‏إيمان بالله‏]‏ دخل فيه الصلاة، ولم يذكر في الأول بر الوالدين، إذ ليس لكل أحد والدان، فالأول مطلق والثاني مقيد بمن له والدان‏.‏
/ولهذا كانت سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور ـ في الدولة الأموية والعباسية ـ أن الإمام يكون إماما في هذين الأصلين جميعا؛ الصلاة، والجهاد‏.‏ فالذي يؤمهم في الصلاة يؤمهم في الجهاد،وأمر الجهاد والصلاة واحد في المقام والسفر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استعمل رجلا علي بلد؛ مثل عتاب بن أسيد علي مكة، وعثمان بن أبي العاص علي الطائف، وغيرهما، كان هو الذي يصلى بهم، ويقيم الحدود، وكذلك إذا استعمل رجلا علي مثل غزوة؛ كاستعماله زيد بن حارثة، وابنه أسامة، وعمرو بن العاص، وغيرهم، كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس؛ ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر في الصلاة علي أنه قدمه في الإمامة العامة‏.‏
وكذلك كان أمراء ‏[‏الصديق‏]‏ ـ كيزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص وغيرهم ـ أمير الحرب هو إمام الصلاة‏.‏
وكان نواب ‏[‏عمر بن الخطاب‏]‏ كاستعماله علي الكوفة عمار بن ياسر علي الحرب والصلاة، وابن مسعود علي القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف علي الخراج‏.‏
ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب، وولاية الخراج، وولاية القضاء، فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، فلما انتشر المؤمنون، وغلبوا الكافرين علي البلاد، وفتحوها، واحتاجوا إلي زيادة في الترتيب، وضع / لهم ‏[‏الديوان‏]‏، ديوان الخراج للمال المستخرج، وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف، ومَصَّر لهم الأمصار، فمصر الكوفة والبصرة، ومصر الفسطاط؛ فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل؛ فجعل هذه الأمصار مما يليه‏.‏