فَصْــل: في ‏الخلافة والسلطان‏‏ وكيفية كونه ظل الله في الأرض
 
/فَصْــل
في ‏[‏الخلافة والسلطان‏]‏ وكيفية كونه ظل الله في الأرض، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، وقال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏26‏]‏‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، يعم آدم وبنيـه، لكن الاسم متناول لآدم عينًا؛ كقوله‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏14‏,‏15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏7، 8‏]‏، ‏{‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 13‏]‏، إلي أمثال ذلك‏.‏
ولهذا كان بين ‏[‏داود، وآدم‏]‏ من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته، وسأل عن عمره‏؟‏ فقيل‏:‏ أربعون سنة‏.‏ فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة‏.‏ والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه؛ ولهذا كلاهما ابتلي بما ابتلاه به من الخطيئة، كما أن كلاً منهما /مناسبة للأخري؛ إذ جنس الشهوتين واحد، ورفع درجته بالتوبة العظيمة التي نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال، ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضًا‏.‏
و ‏[‏الخليفة‏]‏ هو من كان خلفًا عن غيره‏.‏ فعيلة بمعني فاعلة‏.‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أو كلما خرجنا في الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن اللبنة من اللبن، لئن أظفرني الله بأحد منهم لأجعلنه نكالاً‏)‏، وفي القرآن‏:‏ ‏{‏ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏
والمراد بالخليفة‏:‏ أنه خلف من كان قبله من الخلق‏.‏ والخلف فيه مناسبة، كما كان أبو بكرالصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلفه علي أمته بعد موته، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف علي المدينة من يكون خليفة له مدة معينة، فيستخلف تارة ابن أم مكتوم، وتارة غيره، واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك‏.‏وتسمي الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام ‏[‏مخاليف‏]‏؛ مثل مخاليف اليمن، ومخاليف أرض الحجاز، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏حيث خرج من مخلاف إلي مخلاف‏)‏، ومنه قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏165‏]‏، وقوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ‏}‏ ـ إلي قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13، 14‏]‏، ومنه قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏
وقد ظن بعض القائلين الغالطين ـ كابن عربي ـ أن ‏[‏الخليفة‏]‏ هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، وزعموا أن هذا بمعني أن يكون الإنسان مستخلفاً، وربما فسروا ‏[‏تعليم آدم الأسماء كلها‏]‏ التي جمع معانيها الإنسان‏.‏ ويفسرون ‏[‏خلق آدم علي صورته‏]‏ بهذا المعني أيضًا، وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم‏:‏ الإنسان هو العالم الصغير، وهذا قريب‏.‏ وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير؛ بناء علي أصلهم الكفري في وحدة الوجود، وأن الله هو عين وجود المخلوقات، فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات، ويتفرع علي هذا ما يصيرون إليه من دعوي الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلي الفرعونية والقرمطية والباطنية‏.‏
وربما جعلوا ‏[‏الرسالة‏]‏ مرتبة من المراتب، وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية، والوحدانية والألوهية، وبالرسالة، ويصيرون في الفرعونية، هذا إيمانهم‏.‏ أو يخرجون في أعمالهم أن يصيروا ‏[‏سدي‏]‏ لا أمر عليهم ولا نهي، ولا إيجاب ولا تحريم‏.‏
/والله لا يجوز له خليفة؛ ولهذا لما قالوا لأبي بكر‏:‏ يا خليفة الله‏!‏ قال‏:‏ لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك‏.‏ بل هو ـ سبحانه ـ يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا‏)‏؛ وذلك لأن الله حي، شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك، ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه‏.‏ والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلي الاستخلاف‏.‏
وسمي ‏[‏خليفة‏]‏ لأنه خلف عن الغزو،وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالي، وهو منزه عنها؛فإنه حي قيوم شهيد،لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق، يرزق عباده، وينصرهم، ويهديهم، ويعافيهم، بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه،والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلي أسبابها‏.‏ فالله هو الغني الحميد، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ‏{‏ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، ‏{‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏، ولا يجوز أن يكون أحد خلفًا منه،ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفء له‏.‏ فمن جعل له خليفة فهو مشرك به‏.‏
وأما الحديث النبوي‏:‏ ‏(‏السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل ضعيف وملهوف‏)‏، وهذا صحيح، فإن الظل مفتقر إلي آوٍ، وهو رفيق له / مطابق له نوعًا من المطابقة، والآوي إلي الظل المكتنف بالمظل، صاحب الظل، فالسلطان عبد الله، مخلوق مفتقر إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق، ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض، وهو أقوي الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده؛ ولا تفسد من كل وجه، بل لابد من مصالح، إذ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملاً مانعًا من جميع الأذي وتارة لا يمنع إلي بعض الأذي، وأما إذا عدم الظل فسد الأمر، كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية‏.‏ والله تعالي أعلم‏.‏