فَصْـــل: بما ثبتت خلافة أبو بكر الصديق هل بالإحماع أم بالنص؟
 
/وقَال ـ رحمه الله تعالى‏:‏
فَصْـــل
حكي أصحابنا ـ كالقاضي أبي يعلي وغيره ـ عن الإمام أحمد في خلافة أبي بكر، هل ثبتت باختيار المسلمين له‏؟‏ أو بالنص الخفي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أو البين‏؟‏
أحدهما‏:‏ بالاختيار، وهو قول جمهور العلماء، والفقهاء، وأهل الحديث، والمتكلمين؛ كالمعتزلة، والأشعرية، وغيرهم‏.‏
والثانية‏:‏ بالنص الخفي، وهو قول طوائف أهل الحديث، والمتكلمين، ويروي عن الحسن البصري‏.‏ وبعض أهل هذا القول يقولون بالنص الجلي‏.‏
وأما قول ‏[‏الإمامية‏]‏‏:‏أنها ثبتت بالنص الجلي علي علي، وقول ‏[‏الزيدية الجارودية‏]‏‏:‏ أنها بالنص الخفي عليه، وقول ‏[‏الراوندية‏]‏‏:‏ أنها بالنص علي العباس ـ فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين، وإنما يدين بها إما جاهل، وإما ظالم‏.‏ وكثير ممن يدين بها زنديق‏.‏
/والتحقيق في خلافة أبي بكر ـ وهو الذي يدل عليه كلام أحمد‏:‏ أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوعها علي سبيل الحمد لها والرضي بها، وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه، وأنه دل الأمة وأرشدهم إلي بيعته‏.‏ فهذه الأوجه الثلاثة‏:‏ الخبر، والأمر، والإرشاد، ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
فالأول‏:‏ كقوله‏:‏ ‏(‏رأيت كأني علي قليب أنزع منها، فأتي ابن أبي قحافـة، فنزع ذنوبًا أو ذنوبين‏)‏ الحديث، وكقوله‏:‏ ‏(‏كأن ميزانًا دلي من السماء إلي الأرض، فوزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن عمر‏)‏ الحديث، وكقوله‏:‏ ‏(‏ادعـي لي أبــاك، وأخــاك حتي أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏.‏ فهذا إخبار منه بأن الله والمؤمنون لا يعقدونها إلا لأبي بكر الذي هم بالنص عليه‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏أري الليلة رجل صالح كأن أبا بكر نيط برسول الله‏)‏ الحديث، وقوله‏:‏ ‏(‏خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا‏)‏‏.‏
وأما الأمر‏:‏ فكقوله‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏)‏، وقوله للمرأة التي سألته إن لم أجدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فأتي أبا بكر‏)‏، وقوله لأصحاب الصدقات‏:‏ ‏(‏إذا لم تجدوه أعطوها لأبي بكر‏)‏ ونحو ذلك‏.‏
/والثالث‏:‏ تقديمه له في الصلاة، وقوله‏:‏ ‏(‏سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر‏)‏ وغير ذلك، من خصائصه ومزاياه‏.‏
وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن‏:‏
فالأول‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏
والثاني قوله‏:‏ ‏{‏ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ‏}‏ الآية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏الفتح‏:‏16‏]‏
والثالث‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، ونحو ذلك‏.‏
فثبتت صحة خلافته، ووجوب طاعته بالكتاب، والسنة، والإجماع‏.‏ وإن كانت إنما انعقدت بالإجماع، والاختيار، كما أن الله إذا أمر بتولية شخص أو إنكاحه، أو غير ذلك من الأمور معه، فإن ذلك الأمر لا يحصل إلا بعقد الولاية، والنكاح‏.‏ والنصوص قد دلت علي أمر الله بذلك العقد، ومحبته له، فالنصوص دلت علي أنهم مأمورون باختياره، والعقد له، وأن الله يرضي ذلك ويحبه‏.‏ وأما حصول المأمور به، المحبوب، فلا يحصل إلا بالامتثال‏.‏ فلما امتثلوا ما أمروا به عقدوا له باختيارهم، وكان هذا أفضل في حقهم، وأعظم في درجتهم‏.‏