شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان
 
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏، فسماهم ‏[‏مؤمنين‏]‏ وجعلهم ‏[‏إخوة‏]‏ مع وجود الاقتتال والبغي‏.‏
والحديث المذكور‏:‏ ‏(‏إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون‏)‏ كذب مفتري، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة‏.‏
و ‏[‏معاويـة‏]‏ لم يَدَّعِ الخلافة،ولم يبـايع له بـها حين قاتـل عليـًا،ولم يقاتل علي أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا‏.‏
بل لما رأي علي ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأي أن يقاتلهم حتي يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة‏.‏
وهم قالوا‏:‏ إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا علي ذلك كانوا مظلومين قالوا‏:‏ لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون / لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا‏.‏ وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر علي أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف‏.‏
وكان في جـهال الفريـقين من يظن بعلي وعثمان ظنونًا كاذبـة ـ بـرأ الله منـها عليا، وعثمان ـ كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي ـ يحلف وهو البار الصادق بلا يمين ـ أنه لم يقتله ولا رضي بقتله،ولم يمالئ علي قتله‏.‏ وهذا معلوم بلا ريب من علي ـ رضي الله عنه ـ فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه؛ فمحبوه يقصدون بذلك الطعن علي عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليا أمر بقتله،ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن علي علي، وأنه أعان علي قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته‏؟‏‏!‏ وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون علي المتشيعين العثمانية، والعلوية‏.‏
وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ـ رضي الله عنه ـ فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ /ولم يكن بقي من أهل الشوري غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي؛ فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي ـ رضي الله عنه ـ وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتي حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولي منه بالطاعة؛ ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهي عن الفرقة والاختلاف؛ ولهذا قيل‏:‏ ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة‏.‏
وأما الحديث الذي فيه ‏(‏أن عمارًا تقتله الفئة الباغية‏)‏، فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري، قد تأوله بعضهم‏:‏ علي أن المراد بالباغية، الطالبة بدم عثمان، كما قالوا‏:‏ نبغي ابن عفان بأطراف الأسل‏.‏ وليس بشيء، بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارًا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة،بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين‏.‏وليس كل ما كان /بغيا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون‏؟‏‏!‏
وكل من كان باغيا، أو ظالمًا، أو معتديا، أو مرتكبًا ما هو ذنب، فهو قسمان متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد؛ كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جري ذلك وأمثاله من خيار السلف‏.‏ فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء‏.‏
وقد أخبر ـ سبحانه ـ عن داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه علي كل منهما بالعلم والحكم‏.‏ والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متي علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا‏.‏ فالبغي هو من هذا الباب‏.‏
/أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولاً، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه علي الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده، لم تكن تسميته ‏[‏باغيا‏]‏ موجبة لإثمه، فضلاً عن أن توجب فسقه‏.‏ والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين، يقولون‏:‏ مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان‏.‏ ويقولون‏:‏ إنهم باقون علي العدالة؛ لا يفسقون‏.‏ ويقولون‏:‏ هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمي عليه والنائم من العدوان ألا يصدر منهم، بل تمنع البهائم من العدوان‏.‏ ويجب علي من قتل مؤمنًا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلي الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة‏.‏
ثم بتقدير أن يكون ‏[‏البغي‏]‏ بغير تأويل، يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة‏:‏ بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك‏.‏
ثم ‏(‏إن عمارًا تقتله الفئة الباغية‏)‏ ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتي قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها‏.‏ ومن المعلوم أنه / كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار؛ كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتي معاوية، وعمرو‏.‏
ويروي أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به، دون مقاتليه، وأن عليا رد هذا التأويل بقوله‏:‏ فنحن إذًا قتلنا حمزة‏.‏ ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب، لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير‏.‏ ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارًا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ، فهو متأول مخطئ‏.‏
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا، لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة؛ منهم من يري القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يري الإمساك عن القتال مطلقًا‏.‏ وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين‏.‏ ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب‏.‏ وفي الثاني سعد بن أبي وقاص؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم‏.‏ ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا علي هذا الرأي، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين‏.‏
/و ‏[‏حديث عمار‏]‏ قد يحتج به من رأي القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول‏:‏ ‏{‏ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ‏(‏أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها‏)‏، وتقول‏:‏ إن هذا القتال ونحوه وهو قتال الفتنة؛ كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال، ولم يرض به، وإنما رضي بالصلح، وإنما أمر الله بقتال الباغي، ولم يأمر بقتاله ابتداء، بل قال‏:‏ ‏{‏ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، قالوا‏:‏ والاقتتال الأول لم يأمر الله به، ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغي عليه؛ فإنه إذا قتل كل باغ كفر، بل غالب المؤمنين، بل غالب الناس، لا يخلو من ظلم وبغي، ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال؛ ولم تجب إلي الصلح؛ فلم يندفع شرها إلا بالقتال‏.‏ فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء، بل أمرنا بالإصلاح / بينهم، وأيضًا فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع علي ناكلين عن القتال، فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له‏.‏والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه‏.‏وأما ‏[‏أهل البيت‏]‏ فلم يسبوا قط‏.‏ ولله الحمد‏.‏
ولم يقتل الحجاج أحدًا من بني هاشم، وإنما قتل رجالاً من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر، فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية، حتي فرقوا بينه وبينها، حيث لم يروه كفئًا‏.‏ والله أعلم‏.