سئل:عن الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها فيقتل بعضهم بعضًا؟
 
وَسئلَ ـ رحمه الله ـ عن الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها، فيقتل بعضهم بعضًا، ويستبيح بعضهم حرمة بعض‏:‏ فما حكم الله تعالي فيهم‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات، وأكبر المنكرات، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏:‏ 106‏]‏، وهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏، فهذا من الكفر، وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب، قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين‏:‏ أخبر أنهم إخوة، وأمر أولاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ‏}‏، ولم يقبلوا الإصلاح ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ‏}‏ ، فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن ‏{‏ تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ‏}‏ أي‏:‏ ترجع إلي أمر الله‏.‏ فمن رجع إلي أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه، ويقسط بينهما، فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقًا؛ لأنه لم تقهر إحدي الطائفتين بقتال‏.‏
/وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعي بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به ورسوله، ويقال لهذه‏:‏ ما تنقم من هذه‏؟‏ ولهذه ما تنقم من هذه‏؟‏ فإن ثبت علي إحدي الطائفتين أنها اعتدت علي الأخري بإتلاف شيء من الأنفس والأموال، كان عليها ضمان ما أتلفته‏.‏ وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء، وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء، تقاصوا بينهم، كما قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ‏}‏، وقد ذكرت طائفة من السلف أنها نزلت في مثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة، قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ‏}‏، والعفو الفضل، فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء علي الأخري ‏{‏فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، والذي عليه الحق يؤديه بإحسان‏.‏ وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخري، فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته علي هذه الحالة وإن كان غنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق الهلالي‏:‏ ‏(‏يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة‏:‏ رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فيسأل حتى يجد سدادا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة؛ فإنه يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون‏:‏ قد أصاب فلانًا فاقة، فيسأل حتى يجد قوامًا من عيش وسدادًا من عيش، ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك‏)‏‏.‏ والواجب علي كل مسلم قادر أن يسعي في الإصلاح بينهم، ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن‏.‏
ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه، فإذا صبر وعفي أعزه الله ونصره، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مازاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، ولا نقصت صدقة من مال‏)‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏40‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏}‏
فالباغي الظالم ينتقم الله منه في الدنيا والآخرة؛ فإن البغي مصرعه، قال ابن مسعود‏:‏ ولو بغي جبل علي جبل لجعل الله الباغي منهما دكًا‏.‏ ومن حكمة الشعر‏:‏
قضي الله أن البغي يصرع أهله ** وأن علي الباغي تدور الدوائــر
ويشهد لهذا قوله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏، الآية، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ما من ذنب أحري أن يجعل لصاحبه العقوبة في الدنيا من البغي، وما حسنة أحري أن يجعل لصاحبها الثواب من صلة الرحم‏)‏، فمن كان من إحدي الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب‏.‏ومن كان مظلومًا مبغيا عليه وصبر كان له البشري من الله، قال تعالي ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏، قال عمرو بن أوس‏:‏ هم الذين لا يظلمون إذا ظلموا، وقد قال تعالي للمؤمنين في حق عدوهم‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏، وقال يوسف ـ عليه السلام ـ لما فعل به إخوته ما فعلوا، فصبر واتقي حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو في عزه، وقالوا‏:‏ ‏{‏أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏،فمن اتقي الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل، ولم يتعد حدود الله، وصبر علي أذي الآخر وظلمه، لم يضره كيد الآخر، بل ينصره الله عليه‏.‏
وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا، فعلي كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن ذلك يرفع العذاب، وينزل الرحمة، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏)‏، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1‏:‏ 3‏]‏