فَصْـــل: اليمين بالطلاق والعتاق في اللجاج والغضب ـ ب ـ
 

ومن قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بقوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه‏)‏ جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله، وبالنذر، وبالطلاق، وبالعتاق وبقوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها‏)‏، إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر‏.‏ فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر، إذ كلاهما لفظ واحد، والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين، إما بالاستثناء، وإما بالتكفير‏.‏
وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام ‏:‏
فقوم قالوا‏:‏ يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما، حتى لو قال‏:‏ أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، دخل ذلك في عموم الحديث‏.‏ وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما‏.‏
/وقوم قالوا‏:‏ يدخل في ذلك الطلاق والعتاق، لا إيقاعهما ولا الحلف بهما، بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدي الروايتين عن أحمد‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق، وهذه الرواية الثانية عن أحمد‏.‏ ومن أصحابه من قال‏:‏ إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان‏.‏
وهذا القول الثالث هو الصواب المأثورمعناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين؛ كسعيد بن المسيب، والحسن، لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان، ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يمينا مكفرة، وهذا معني قول أحمد في غير موضع‏:‏ الاستثناء في الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، قال أيضا‏:‏ الاستثناء في الطلاق لا أقول به؛ وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان‏.‏ وقال أيضا‏:‏ إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران‏.‏
وهذا الذي قاله ظاهر، وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص، والإبراء من الدين؛ولهذا لو قال‏:‏ والله لا أحلف على يمين، ثم إنه أعتق عبدًا له، أو طلق امرأته، أو أبرأ / غريمه من دم أو مال أو عرض، فإنه لا يحنث،ما علمت أحدًا خالف في ذلك‏.‏ فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث‏)‏، فقد حمل العام ما لا يحتمله، كما أن من أخرج من هذا العام قوله‏:‏ الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه، فإن هذا يمين بالطلاق والعتاق‏.‏
وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله‏:‏ الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان؛ فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما، وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا؛ ولهذا لو قال‏:‏ والله لا أحلف على يمين أبدًا‏.‏ ثم قال‏:‏ إن فعلت كذا فامرأتي طالق، حنث‏.‏ وقد تقدم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سموه يمينا، وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا، وكذلك عامة المسلمين سموه يمينا‏.‏
ومعني اليمين موجود فيه، فإنه إذا قال‏:‏ أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله، فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلي الفعل المحلوف عليه، والمعني إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعل لم يكن قد شاء‏.‏ فلا يكون ملتزما له‏.‏ فلو نوي عوده إلي الحلف بأن يقصد ـ أي الحالف ـ إن شاء الله أن أكون حالفا كان معني هذا مغايرًا الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق،/ وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك، وكذلك قوله‏:‏ الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله، تعود المشيئة عند الإطلاق إلي الفعل، فالمعني‏:‏ لأفعلنه إن شاء الله فعله، فمتي لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق، بخلاف ما لو عني بالطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه، فإن هذا بمنزلة قوله‏:‏ أنت طالق إن شاء الله‏.‏
وقول أحمد‏:‏ إنما يكون الاستثناء فيما فيه حكم الكفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران، كلام حسن بليغ، لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة الجزاء وبصيغة واحدة،فلا يفرق بين ما جمعه النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله ـ تعالي ـ بعد وجود أسبابها‏:‏ فإنها واجبة بوجوب أسبابها؛ فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله، وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها، والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة، والمخالفة بالحنث أخري‏.‏ ووجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق، فكل من حلف على شيء ليفعلنه فلم يفعله،فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه،وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة، فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة / فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص، فهذا على ما أوجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم يقال بعد ذلك قـول أحمد وغيره‏:‏ الطـلاق والعتاق لا يكفران‏.‏ كقوله وقول غيره‏:‏ لا استثناء فيهما، وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق‏.‏ وأما الحلف بهما فليس تكفيرًا لهما، وإنما هو تكفير للحلف بهما، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب، فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي، وإنما يكفر الحلف بهم، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها، وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها، وكما أنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أعتق، فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب، وليس ذلك تكفيرًا للعتق، وإنما هو تكفير للحلف به‏.‏ فلازم قول أحمد هذا أنه إذاجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه‏.‏
وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب أحمد ومذهب مالك فهو قول مرجوح، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة‏.‏
/وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء‏:‏ إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه؛ لأنه لا استثناء فيه، لزم من هذا القول أن الاستثناء في الحلف بهما‏.‏
وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال‏:‏ يصح في الحلف بهما الاستثناء ولاتصح الكفارة، فهذا الفرق لم أعلمه منصوصا عليه عن أحمد، ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين، كما نص في الاستثناء في الحلف بهما على روايتين، لكن هذا القول لازم على إحدي الروايتين عنه التي ينصرونها‏.‏ ومن سوي الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها، ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها، بل يرجع عن الملزوم، أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم‏.‏
والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما ألا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات، أو نص على نفيه‏.‏ وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص،فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء، وعنه في الاستثناء روايتان، فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات هل يسمي ذلك مذهبا، أو لا يسمي‏؟‏ ولأصحابنا فيه خلاف مشهور‏.‏
/فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له، والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له‏.‏ والتحقيق أن هذا قياس قوله ولازم قوله،فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا ـ أيضا ـ بمنزلة ما ليس بلازم قوله‏:‏ بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حيث أمكن ألا يلازمه‏.‏
وأيضا، فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرًا به أو ملزما له إذا أوقعه صاحبه، وكذلك العتق، وكذلك النذر‏.‏ وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد، أو تحريم أشياء عليه، والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه؛ فإنه لو جري على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق، ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور، كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة؛ لأن مقصوده إنماهو دفع المكروه عنه، لم يقصد حكمها، ولا قصد التكلم بها ابتداء‏.‏ فكذلك الحالف إذا قال‏:‏ إن لم أفعل كذا فعلى الحج، أو الطلاق، ليس بقصد التزام حج ولا طلاق، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء، وإنما قصده الحض على ذلك الفعل، أو منع نفسه منه، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع‏:‏ إن فعلت كذا فهذا لي لازم، أو هذا على حرام؛ لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به، فقصده منعهما جميعا، لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه‏.‏ وإذا لم يكن قاصدًا للحكم ولا لسببه، وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم‏.‏
/وأيضا، فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف، وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق‏.‏ ولم أقف ـ إلي الساعة ـ على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق، وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق، كما تقدم‏.‏
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارًا عظيما، ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من الحيل والمفاسد في الأيمان، حتى اتخذوا آيات الله هزوًا، وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لابد لهم من فعلها إما شرعا وإما طبعا، وعلى فعل أمور يصلح فعلها إما شرعا وإما طبعا، وغالبا ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود، وقد قيل‏:‏ إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثاً حتى تنكح زوجا غيره لئلا يسارع الناس إلي الطلاق؛ لما فيه من المفسدة‏.‏
فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلي فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل، أخذت عن الكوفيين وغيرهم‏.‏
/الحيلة الأولي ‏:‏ في المحلوف عليه، فيتأول لهم خلاف ما قصدوه، وخلاف ما يدل عليه الكلام في عرف الناس وعاداتهم، وهذا هو الذي وصفه بعض المتكلمين في الفقه ويسمونه باب المعاياة وباب الحيل في الأيمان، وأكثره مما يعلم بالاضطرارمن الدين أنه لا يسوغ في الدين، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه؛ ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان‏.‏
الحيلة الثانية ‏:‏ إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه، بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة، وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها، وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة؛ فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة، وحيل الخلع لا تمشي على أصلهم؛ لأنهم يقولون‏:‏ إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع به الطلاق؛ لأن المعتدة من فرقة بائنة يلحقها الطلاق عندهم، فيحتاج المحتال بهذه الحيلة أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه بعد انقضائها وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة، فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي‏.‏ وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهرالروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، فيصير الحالف كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها؛ فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق، أو يفتوه بعدمه وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان، شبيه بنكاح المحلل سواء، فإن ذلك / عقد عقدًا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله ابن بطة جزءًا في إبطالها، وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع‏.‏
الحيلة الثالثة ‏:‏ إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به، فيبطلونه بالبحث عن شروطه، فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدًا؛ ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع، ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدي روايته‏:‏ أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه، والفسوق غالب على كثير من الناس، فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع الطلاق، ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح، وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلي أنه يقع في الفاسد في الجملة‏.‏ وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح في النكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك، ولا ينظرون في ذلك ـ أيضا ـ عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح، بل عند وقوع الطلاق خاصة، وهذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن المكر في آيات الله، إنما أوجبه الحلف بالطلاق، والضرورة إلي عدم وقوعه‏.‏
/الحيلة الرابعة‏:‏ الشرعية في إفساد المحلوف به ـ أيضاً ـ لكن لوجود مانع، لا لفوات شرط؛ فإن أبا العباس ابن سُرَيج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي وإذا طلقتك فأنت طالق قبل ثلاثاً، فإنه لا يقع عليه بعد ذلك طلاق أبدًا؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق، وإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز، فيفضي وقوعه إلي عدم وقوعه فلا يقع، وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام؛ حيث قد علم بالضرورة من دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق، وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام، فقالوا‏:‏ إذا وقع المنجز وقع المعلق‏.‏ وهذا الكلام ليس بصحيح؛ فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة‏.‏ فالكلام المشتمل على ذلك باطل‏.‏ وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحًا‏.‏
ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث‏؟‏ أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز‏؟‏ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏
وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق، أم قاله طردًا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده‏؟‏ لكني رأيت / مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق‏.‏
ولهذا صاغوها بقوله‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً؛ لأنه لو قال‏:‏ إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة، وإن كان كلاهما في الدور سواء؛ وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته‏:‏ إذا طلقتك فعبدي حر، أو فأنت طالق، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين، أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد‏.‏ فإن كل واحد من التنجيز والتعليق الذي وجد شرطه تطليق، أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا؛ لأن التطليق لابد أن يصدر عن المطلق، ووقوع الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه‏.‏ فأما إذا قال‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي، فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط، والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه‏.‏ فصوروا المسألة بصورة قوله‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي‏.‏حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له‏:‏ قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، فيقول ذلك، فيقولون له‏:‏ افعل الآن ما حلفت عليه؛ فإنه لا يقع عليك طلاق‏!‏‏!‏
فهذا التسريح المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما نفقه في الغالب وأحوج كثيرا من الناس إلا الحلف بالطلاق، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد؛ لأن العاقل لا يكاد يقصد انسداد باب الطلاق عليه إلا نادرًا‏.‏
/الحيلة الخامسة‏:‏ إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا،ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا، احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده، ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، كما قد نبهنا على بعضه في ‏[‏كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل‏]‏ وأغلب ما يحوج الناس إلي نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق، وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده، ومن قصده لم يترتب عليه من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر لوقوعه لحاجته إلي الحنث‏.‏
فهذه المفاسد الخمس التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجها من مفهومها ومقصودها، ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح، ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح، ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق، ثم الاحتيال بنكاح المحلل‏:‏ في هذه الامورمن المكر والخداع، والاستهزاء بآيات الله، واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الإسلام، ويوجب طعن الكفار فيه، كما رأيته في بعض كتب النصاري وغيرها، وتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان‏.‏
/وأكثر ما أوقع الناس فيها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء فيها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق، واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة، حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرًا مبناه على هذا الأصل، وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي ـ رحمه الله ـ يقول‏:‏ مثالها مثال رجل بني دارًا حسنة على حجارة مغصوبة، فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره، انهدم بناؤه؛ فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة‏.‏
فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه من أهل الكتاب كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أفتي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان والعلماء بعدهم، ولا هو مناسب لأصول الشريعة، ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة، أسندت إلي قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة، وهم ـ ولله الحمد ـ فوق ما يظن بهم، لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلي الله وإلي الرسول، وقد خالفهم من ليس دونهم، بل مثلهم أو فوقهم‏.‏ فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة / كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه، وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي من أمثل فقيهات الصحابة ـ الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق، والطلاق أولي منه‏.‏ وذكرنا عن طاووس ـ وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا ـ‏:‏ أنه لم يكن يري اليمين بالطلاق موقعة له‏.‏
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد، وحاله في الشريعة هذه الحال، كان هذا دليلا على أن ما أفضي إلي هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله، كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق من يزدرعها ويستثمرها، ويبيع الخضر ونحوها‏.‏
وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه، وليعقن أباه، وليقتلن عدوه المسلم المعصوم، وليأتين الفاحشة، وليشربن الخمر، وليفرقن بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ثلاثة أمور‏:‏
إما أن يفعل هذا المحلوف عليه، فهذا لا يقوله مسلم؛ لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة، مع أن كثيرًا من الناس بل والمفتين إذا رأوه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه، وإقامة عذره‏.‏
/وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة، كما استخرجه قوم من المفتين‏:‏ ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته، والمكر في دينه، والكيد له، وضعف العقل والدين، والاعتداء لحدوده، والانتهاك لمحارمه، والإلحاد في آياته ما لا خفاء به، وإن كان في إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك، فقد دخل من الغلط في ذلك ـ وإن كان مغفورًا لصاحبه المجتهد المتقي لله ـ ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين‏.‏
وإما ألا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه، بل يطلق امرأته، كما يفعله من يخشي الله إذا اعتقد وقوع الطلاق، ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن الله به ولا رسوله‏.‏
أمـا فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوج باتفاق العلماء، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏)‏، وقد اختلف العلماء هل هو محرم، أو مكروه‏؟‏ وفيه روايتان عن أحمد‏.‏ وقد استحسنوا جواب أحمد ـ رضي الله عنه ـ لما سئل عمن حلف بالطلاق وحرم ليطأن امرأته وهي حائض، فقال‏:‏ ويطلقها ولا يطأها، قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض‏.‏ وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين‏:‏ إما على قوله‏:‏ إن الطلاق ليس بحرام، وإما أن يكون تحريمه دون تحريم الوطء‏.‏ وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلي حرام‏.‏
/وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف؛ فإن لزوم الطلاق والمحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة في مثل هذا قط، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة، وهي متاعه الذي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة، إن نظرت إليها أعجبتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك‏)‏، وهي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لما سأله المهاجرون‏:‏ أي المال نتخذ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، أو امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه‏)‏،رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ويكون منها من المودة والرحمة ما امتن الله ـ تعالي ـ بها في كتابه، فيكون ألم الفراق أشد عليها من الموت أحيانا، وأشد من ذهاب المال، وأشد من فراق الأوطان، خصوصا إن كان بأحدهما علاقة من صاحبه، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ـ ثم يفضي ذلك إلي القطيعة بين أقاربها ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله ـ تعالي ـ بها في قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 54‏]‏، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عليكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ومن العسر المنفي بقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏
وأيضاً، فإذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان، من صدقة أو عتاقة، وتعليم علم،وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس /ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها،فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق أعظم ألا يفعل ذلك، بل ولا يؤمر به شرعا؛ لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال‏.‏ وهذه المفسدة هي التي أزالها الله ورسوله بقوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة‏)‏‏.‏
فإن قيل‏:‏ فهو الذي أوقع نفسه في أحد هـذه الضرائـر الثـلاث، فلا ينبغي له أن يحلف‏.‏
قيل‏:‏ ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم؛ فإن الله لم يحمل علينا إصرًا كما حمله على الذين من قبلنا، فهب هذا قد أتي كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق، ثم تاب من تلك الكبيرة، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقي أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا‏؟‏‏!‏‏!‏ وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه، فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق‏:‏ إما لكراهة المرأة، أو غضب عليها، ونحو ذلك‏.‏ وقد جعل الله الطلاق ثلاثة، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره، وله ذلك ثلاث مرات، كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرًا، بخلاف الأول؛ فإن مقصوده لم يكن الطلاق، إنما كان أن / يفعل المحلوف عليه أولا يفعله، ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلي فعله أو تركه، فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه‏.‏
وأيضاً، فإن الذي بعث الله ـ تعالي ـ به محمدًا صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة؛ لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته‏.‏
وأيضاً، فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب، فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره‏.‏ والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين، وذلك أن الرجل إذا قال‏:‏ إن أكلت أو شربت فعلى أن أعتق عبدي، أو فعلى أن أطلق امرأتي، أو فعلى الحج، أو فأنا محرم بالحج، أو فمالي صدقة، أو فعلى صدقة، فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور، كما قدمناه، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فكذلك إذا قال‏:‏ إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلى الطلاق‏.‏ أو فالطلاق لي لازم‏.‏ أو فامرأتي طالق‏.‏ أو فعبيدي أحرار؛ فإن قوله على الطلاق لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، فهو بمنزلة قوله‏:‏ على الحج لا أفعل كذا، أو الحج لي لازم لا أفعل كذا‏.‏ وكلاهما يمينان محدثان ليستا مأثورتين عن العرب ، ولا معروفتين عن الصحابة ، وإنما / المتأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا، وربطوا إحدي الجملتين بالأخري، كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها، لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله‏:‏ إن فعلت فمالي صدقة، يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل، وقوله‏:‏ فامرأتي طالق، يقتضي وجود الطلاق، فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا، ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة‏.‏
وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين‏:‏
أحدهما‏:‏ منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها‏.‏
والثاني‏:‏ بيان عدم التأثير‏.‏
أما الأول‏:‏ فإنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فأنا محرم أو فبعيري هدي، فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبهما كما أن المعلق في قوله‏:‏ فعبدي حر، وامرأتي طالق‏.‏ وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما؛ ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال‏:‏ هذا هدي، وهذا صدقة لله‏:‏ هل يخرج عن ملكه، أو لا يخرج‏؟‏ فمن قال‏:‏ يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه، وأكثر ما في الباب أن الصدقة / والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد، وهذا لا تأثير له، وكذلك لو قال‏:‏ على الطلاق لأفعلن كذا، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، فهو كقوله‏:‏ على الحج لأفعلن كذا فهو جعل المحلوف به هاهنا وجوب الطلاق؛ لا وجوده، كأنه قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أطلق، فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب‏.‏ كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود‏.‏
وأما الجواب الثاني‏:‏ فنقول‏:‏ هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق، والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب‏؟‏ بل يجزئه كفارة يمين، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب، بل يجزيه كفارة يمين عند وجوب الشرط، فإن كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود، بل كما لو قال‏:‏ هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق، بل يلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء‏.‏
ولو قال ابتداء‏:‏ هو يهودي أو نصراني أو كافر يلزمه الكفر، بمنزلة قوله ابتداء‏:‏ عبدي حر، وامرأتي طالق، وهذه البدنة هدي، وعلى صوم / هدي، وعلى صوم يوم الخميس، ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله‏:‏ إذا هل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أنه يحكم بكفره، لكن لا يناجز الكفر؛ لأن توقيته دليل على فساد عقيدته‏.‏
قيل‏:‏ فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط، قيل‏:‏ مثله في الحلف بالعتق، وكذلك الحلف بالطلاق، كما لو قال‏:‏ فعلى أن أطلق امرأتي‏.‏ ومن قال إنه إذا قال‏:‏ فعلى أن أطلق امرأتي، لا يلزمه شيء، فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء؛ ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير؛ فإن وطئ امرأته كان اختيارًا للتكفير، كما أنه في الظهار يكون مخيرًا بين التكفير وبين تطليقها؛ فإن وطئها لزمته الكفارة، لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر؛ لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه‏.‏ وأما هنا فقوله‏:‏ إن فعلت فهي طالق، بمنزلة قوله‏:‏ فعلى أن أطلقها‏.‏ أو قال‏:‏ والله لأطلقنها‏.‏ إن لم يطلقها فلا شيء عليه، وإن طلقها فعليه كفارة يمين‏.‏
يبقي أن يقال‏:‏ هل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال‏:‏ والله لأطلقها الساعة ولم يطلقها‏؟‏ أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها‏؟‏ أو لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل، كالذي يخير / بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبده، أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق‏؟‏ قيل‏:‏ الحكم في ذلك كما لوقال‏:‏ فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك، والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما، كسائر أنواع الخيار‏.