فصـــل: رجل حلف لم يفعل الذنب
 
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏
فصـــل
في رجل حلف أنه من حين عقل لم يفعل الذنب وكان قد فعل هذا الذنب وله نحو عشرين سنة، ونوى بقلبه أنه لم يفعله من حين بلغ‏:‏ فهذا ينظر إلى مراده بقوله‏:‏ من حين عقل‏.‏ فإن كان مراده من حين بلغ الحلم، فهو بار ولا حنث عليه بلا ريب‏.‏ وإن كان مراده‏:‏ أنه لم يفعله من حين ميز‏.‏ فابن عشر سنين يميز، فهذا إذا كان يعلم كذب نفسه فيمينه غموس، وهي من الكبائر، عليه أن يتوب إلى الله منها‏.‏ فإن كانت من الأيمان المكفرة ففيها قولان‏:‏ جمهور أهل العلم يقولون هي أعظم من أن تكفر، وإنما تمحى بالتوبة الصحيحة، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن فيها الكفارة، وهو مذهب الشافعى وأحمد في الرواية الثانية عنه فاليمين بالله مكفرة باتفاق العلماء‏.‏
وأما الحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق والكفر، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا وكذا فعلى الحج، أو مالي صدقة، أو على الحرام، أو الطلاق / يلزمني لأفعلن كذا، وإن كنت فعلت كذا فعبيدي أحرار، أو إن كنت فعلت كذا فإني يهودي أو نصراني، فهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ إذا حنث يلزمه التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ لا شيء عليه‏.‏ وقيل‏:‏ بل عليه كفارة يمين، وهو أظهر الأقوال، كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
فإن كان قد حلف بهذه الأيمان يمينًا غموسًا فمن أوجب الكفارة في اليمين الغموس وقال‏:‏ إن هذه الأيمان تكفر فإنه يوجب فيها كفارة‏.‏ وأما من قال‏:‏ اليمين الغموس أعظم من أن تكفر، فلهم قولان‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذه يلزمه فيها ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وكفر، وإن قيل‏:‏ إن ذلك لا تلزمه اليمين المغفورة، وهي الحلف على المستقبل، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد‏.‏ واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لإسلام كاذبًا فهو كما قال، قالوا‏:‏ لأن هذه اليمين غير منعقدة بل الحنث فيها مقارن للعفو فلا كفارة فيها، وقد التزم فيها ما التزمه مع علمه بكذبه فيجب إلزامه بذلك عقوبة له على كذبه وزجرًا لمن يحلف يمينًا كاذبة، بخلاف اليمين المنعقدة فإن صاحبها مطيع لله ليس بعاص‏.‏
/والقول الثاني‏:‏ وهو قول الأكثرين ألا يلزمه ما التزمه من كفر وغيره، كما لا يلزمه ذلك في اليمين على المستقبل، وإنما قصد في كلا الموضعين اليمين، فهو لم يقصد إذا كان كاذبًا أن يكون كافرًا، ولا أن يلزمه ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وغير ذلك، كما لم يقصد إذا حنث في اليمين على المستقبل أن يلزمه ذلك، بل حقيقة كلامه ومقصوده هو اليمين في الموضعين، فما فرق فيه بين الكفر والنذر والطلاق والعتاق في أحد الموضعين وبين الحلف بذلك يفرق به في الموضع الآخر، لكن هو في الموضعين قد أتى كبيرة من الكبائر بيمينه الغموس فعليه أن يتوب إلى الله منها كما يتوب من غيرها من الكبائر، وإذا تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له، ولا يصدر كفر ولا نذر ولا طلاق ولا عتاق، بل إنما صدر منه الحلف بذلك، والله أعلم‏.‏