سئل: عن رجلين تكلما في ‏[‏مسألة التأبير‏]‏؟
 
سئل شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ عن رجلين تكلما في ‏[‏مسألة التأبير‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكلم بما يدل علي نقص الرسول كفر، لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر، وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا ـ وسمي بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي ـ فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل‏:‏ فهل يكون هذا تنقيصًا بالرسول بوجه من الوجوه‏؟‏ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير، أم لا‏؟‏ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق‏:‏ فهل عليه في ذلك تعزير أم لا‏؟‏ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ‏؟‏ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن اعتدي علي مثل هذا، أو نسبه إلي تنقيص بالرسول، أو العلماء، وطلب عقوبته علي ذلك‏:‏ فما يجب عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏؟‏
/فأجاب‏:‏
الحمد لله، ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين، بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل علي نقصه، وهذا مبالغة في تعظيمه، ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة علي نقصه‏.‏
ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه؛ فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين‏.‏ وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالي قال في دعاء المؤمنين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الله تعالي قال‏:‏ قد فعلت‏)‏‏.‏
واتفق علماء المسلمين علي أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا‏:‏ إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون / علي ذلك لم يكفر أحد منهم علي ذلك باتفاق المسلمين؛ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ إنهم معصومون من الإقرار علي ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والتفسير، والصوفية، الذين ليسوا كفارًا باتفاق المسلمين، بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك‏.‏
فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي، وابن سريج في تعليقه‏:‏ وذلك أن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا، ولكن الفرق بيننا أنا نقر علي الخطأ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه، وإنما يسهو ليسن، وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما أسهو لأسن لكم‏)‏‏.‏
وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم؛ من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة ومنهم من ادعي إجماع السلف علي هذا القول، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه، ومع هذا فقد اتفق المسلمون علي أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره / وأمثاله عن تكفير المسلمين، وإنما يقال في مثال ذلك‏:‏ قولهم صواب أو خطأ‏.‏ فمن وافقهم قال‏:‏ إن قولهم الصواب‏.‏ ومن نازعهم قال‏:‏ إن قولهم خطأ، والصواب قول مخالفهم‏.‏
وهذا المسؤول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم علي ذلك، لكنه ينفي التكفير عنهم‏.‏ ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدي عليه، ونسبه إلي تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء، فإنه مصرح بنقيض هذا، وهذا‏.‏
وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة، قسم الكلام في هذا الباب، إلي أن قال‏:‏ ‏[‏الوجه السابع‏]‏‏:‏ أن يذكر ما يجوز علي النبي صلى الله عليه وسلم، ويختلف في إقراره عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله علي شدته من مقاسات أعدائه وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله، وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معانات عيشه، كل ذلك علي طريق الرواية، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم‏.‏ فقال‏:‏ هذا فن خارج من هذه الفنون الستة؛ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ، لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه، أو يخشي به فتنة‏.‏
/وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا‏:‏ أن يقول القائل شيئاً من أنواع السب حاكيًا له عن غيره، وآثرًا له عن سواه‏:‏ فهذا ينظر في صورة حكايته، وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك علي ‏[‏أربعة وجوه‏]‏ الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم‏.‏ ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره علي وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي علي القائل، أو علي وجه الرذالة والنقص علي قائله، بخلاف من ذكره لغير هذين‏.‏ قال‏:‏ وليس التفكه بعرض النبي صلى الله عليه وسلم، والتمضمض بسوء ذكره لأحد لاذاكرًا، ولا آثرًا لغير غرض شرعي مباح‏.‏
فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب فإنه من مسائل الخلاف، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح‏.‏
وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا ـ هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد‏.‏
/فبكل حال هذا القائل محمود علي ما فعل، مأجور علي ذلك، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ، والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ؛ فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلـوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدًا اجتهادًا سائغًا بحيث يقصد طاعـة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم علي واحـد منهمـا ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطاء فليس في ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏
وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره؛ فإنه ليس في حضوره فائدة، إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالي، وفيهم من هو أجل من الغزالي، وفيهم من هو دونه‏.‏ ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين، بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك، حتى المتكلمون، فإن أبا الحسن الأشعري قال‏:‏ أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك، ذكره في ‏[‏أصول الفقه‏]‏ وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب‏.‏ والمسألة عندهم من الظنيات، كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي، وأبو الحسن الآمدي، وغيرهما، فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون‏؟‏‏!‏ أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين، أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلاً‏؟‏‏!‏ والله تعالى أعلم‏.