سئل: عن ‏[‏المعز معد بن تميم‏]‏ الذي بنى القاهرة؟
 
/وَسئل ـ رَحمه اللّه تعالي ـ عن ‏[‏المعز معد بن تميم‏]‏ الذي بني القاهرة، والقصرين‏:‏ هل كان شريفًا فاطميا‏؟‏ وهل كان هو وأولاده معصومين‏؟‏ وأنهم أصحاب العلم الباطن‏؟‏ وإن كانوا ليسوا أشرافًا‏:‏ فما الحجة علي القول بذلك‏؟‏ وإن كانوا علي خلاف الشريعة‏:‏ فهل هم ‏[‏بغاة‏]‏ أم لا‏؟‏ وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم‏؟‏ ولتبسطوا القول في ذلك‏؟‏
فأجاب‏:‏
الحمد لله، أما القول بأنه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ، كما يدعيه الرافضة في ‏[‏الاثني عشر‏]‏، فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير‏:‏ فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة؛ كعلي، والحسن، والحسين ـ رضي الله عنهم‏.‏ ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان علي أن هذا القول من أفسد الأقوال، وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان؛ فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء ـ عليهم السلام‏.‏
بل كان من سوي الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك، ولا تجب طاعة من سوي الأنبياء والرسل في كل ما يقول، ولا يجب علي الخلق اتباعه والإيمان / به في كل ما يأمر به ويخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفرًا، بخلاف الأنبياء، بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب علي المجتهد النظر في قوليهما، وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فأمر عند التنازع بالرد إلي الله وإلي الرسول؛ إذ المعصوم لا يقول إلا حقًا‏.‏ ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه، كما لو ذكر آية من كتاب الله تعالي، أو حديثًا ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به قطع النزاع‏.‏
أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل علي صحة ما يقول فليس بصحيح، بل هذه المرتبة هي ‏[‏مرتبة الرسول‏]‏ التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالي‏:‏‏{‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ‏}‏ ‏[‏الإسـراء‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، وأمثال هذه في القرآن كثير، بين فيه سعادة من آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم، وشقاوة من لم يؤمن بهم ولم يتبعهم، بل عصاهم‏.‏
فلو كان غير الرسول معصومًا فيما يأمر به وينهي عنه لكان حكمه ذلك حكم الرسول، والنبي المبعوث إلي الخلق رسول إليهم، بخلاف من لم يبعث إليهم‏.‏ فمن كان آمرًا ناهيا للخلق؛ من إمام، وعالم، وشيخ، وأولي أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم، وكان معصومًا، كان بمنزلة الرسول في ذلك، وكان من أطاعه وجبت له الجنة، ومن عصاه وجبت له النار، كما يقوله القائلون بعصمة علي أو غيره من الأئمة، بل من أطاعه يكون مؤمنًا، ومن عصاه يكون كافرًا، وكان هؤلاء كأنبياء بني إسرائيل، فلا / يصح حينئذ قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نبي بعدي‏)‏‏.‏
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏)‏‏.‏ فغاية العلماء من الأئمة وغيره من هذه الأمة أن يكونوا ورثة أنبياء‏.‏
وأيضًا فقـد ثبت بالنصوص الصحيحة والإجماع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصديق في تأويل رؤيا عبرها‏:‏ ‏(‏أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا‏)‏، وقال الصديق‏:‏ أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم‏.‏ وغضب مرة علي رجل فقال له أبو بردة‏:‏ دعني أضرب عنقه فقال له‏:‏ أكنت فاعلاً‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولهذا اتفق الأئمة علي أن من سب نبيا قتل، ومن سب غير النبي لا يقتل بكل سب سبه، بل يفصل في ذلك‏:‏ فإن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم، قتل مسلمًا كان أو كافرًا‏:‏ لأنه قدح في نسبه، ولو قذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يعلم براءتها لم يقتل‏.‏
وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر علي نفسه في مواضع بمثل هذه، فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتي يستفيدها منهم، ويقول في مواضع‏:‏ والله ما يدري عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول‏:‏ امرأة أصابت، ورجل أخطأ، ومع هذا فقد ثبت في / الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏، وفي الترمذي‏:‏ ‏(‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه‏)‏، فإذا كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق علي لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد علي نفسه بأنه ليس بمعصوم، فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته‏؟‏‏!‏
فإن أهل العلم متفقون علي أن أبا بكر وعمر أعلم من سائر الصحابة، وأعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم، وأولي بمعرفة الحق واتباعه منهم، وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏)‏، روي ذلك عنه من نحو ثمانين وجهًا، وقال علي ـ رضي الله عنه ‏:‏ لا أوتي بأحد يفضلني علي أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري‏.‏
والأقوال المأثورة عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة كثرة‏.‏
بل أبو بكر الصديق لا يحفظ له فتيا أفتي فيها بخلاف نص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجد لعلي وغيره من الصحابة من ذلك أكثر مما وجد لعمر، وكان الشافعي ـ رضي الله عنه ـ يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه، فيحتجون عليه بقول علي، فصنف كتاب ‏[‏اختلاف علي وعبد الله بن مسعود‏]‏، وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما‏:‏ لمجيء السنة بخلافها، وصنف بعده محمد بن نصر الثوري كتابًا أكبر من ذلك، كما ترك من قول علي ـ رضي الله عنه ـ / أن المعتدة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فإنها تعتد أبعد الأجلين، ويروي ذلك عن ابن عباس أيضًا، واتفقت أئمة الفتيا علي قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك، وهو أنها إذا وضعت حملها حلت، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن سبيعة الأسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال‏:‏ ما أنت بناكح حتي تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏كذب أبو السنابل‏.‏ حللت فانكحي‏)‏‏.‏ فكذب النبي صلى الله عليه وسلم من قال بهذه الفتيا‏.‏ وكذلك المفوضة التي تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهر قال فيها علي وابن عباس‏:‏ إنها لا مهر لها، وأفتي فيها ابن مسعود وغيره‏:‏ إن لها مهر المثل، فقام رجل من أشجع فقال‏:‏ نشهد‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه‏.‏ ومثل هذا كثير‏.‏
وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضًا في العلم والفتيا، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضًا، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، وقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرًا مما يفعله، ويرجع علي ـ رضي الله عنه ـ في آخر الأمر إلي رأيه، وكان يقول‏:‏
لئن عجـــزت عجزةً لا أعـتــذر ** ســوف أكيس بعدهـــا وأستمــر
وأجبر الرأي النسيب المنتشر
/وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب، وله فتاوي رجع ببعضها عن بعض، كقوله في أمهات الأولاد، فإن له فيها قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ المنع من بيعهن، والثاني‏:‏ إباحة ذلك‏.‏ والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان، إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم السنة استقرت فلا يرد عليها بعده نسخ إذ لا نبي بعده‏.‏
وقد وصي الحسن أخاه الحسين بألا يطيع أهل العراق، ولا يطلب هذا الأمر، وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين ألا يذهب إليهم، لا يجيبهم إلي ما قالوه من المجيء إليهم والقتال معهم، وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ فعل ما رآه مصلحة، والرأي يصيب ويخطئ‏.‏ والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه؛ وليس له أن يخالف معصومًا آخر، إلا أن يكـونا علي شـريعتين، كالرسـولين، ومعلـوم أن شريعتهما واحـدة‏.‏ وهـذا باب واسـع مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
والمقصود أن من ادعي عصمة هؤلاء السادة، المشهود لهم بالإيمان والتقوي والجنة‏:‏ هو في غاية الضلال والجهالة، ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود‏.‏
/فكيف تكون العصمة في ذرية ‏[‏عبد الله بن ميمون القداح‏]‏ مع شهرة النفاق والكذب والضلال‏؟‏‏!‏ وهب أن الأمر ليس كذلك ، فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك، وأكثرها ظلمًا وانتهاكًا للمحرمات، وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات، وأعظم إظهارًا للبدع المخالفة للكتاب والسنة، وإعانة لأهل النفاق والبدعة‏.‏
وقد اتفق أهل العلم علي أن دولة بني أمية وبني العباس أقرب إلي الله ورسوله من دولتهم، وأعظم علماً وإيمانًا من دولتهم، وأقل بدعًا وفجورًا من بدعتهم، وأن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم، ولم يكن في خلفاء الدولتين من يجوز أن يقال فيه إنه معصوم، فكيف يدعي العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات، والظلم والبغي، والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوي من الأمة، والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق‏؟‏‏!‏ فهم من أفسق الناس‏.‏ ومن أكفر الناس‏.‏ وما يدعي العصمة في النفاق والفسوق إلا جاهل مبسوط الجهل، أو زنديق يقول بلا علم‏.‏
ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوي، أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏، وقال عن إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 81‏]‏، وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم /ولا بثبوت إيمانهم وتقواهم، فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالي ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور‏.‏ فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل علي إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل علي نفاقهم وزندقتهم‏.‏
وكذلك ‏[‏النسب‏]‏، قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس، أو اليهود‏.‏ هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف؛ من الحنيفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم‏.‏ وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتي بعض من قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم‏.‏
/وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتي القاضي ابن خلكان في تاريخه، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك، حتي صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابة المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصاري، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلي في كتابه ‏[‏المعتمد‏]‏ فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه ‏[‏فضائل المستظهرية، وفضائح الباطنية‏]‏ قال‏:‏ ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض‏.‏
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون علي علي غيره، بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله، يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة‏.‏ فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة‏؟‏‏!‏ والرافضة الإمامية ـ مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة ـ نعم يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين، ويعلمون أن مقالة هؤلاء / الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي ـ رضي الله عنه ـ‏.‏ وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف‏.‏
وقد تولي الخلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظلم ما فيه، فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك، كما قدحوا في نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلي الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء‏.‏ وقد قام من ولد علي طوائف؛ من ولد الحسن، وولد الحسين، كمحمد بن عبد الله بن حسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمثالهما‏.‏ ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا بالأندلس مدة، وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم، ولا في إسلامهم، وقد قتل جماعة من الطالبيين من علي الخلافة، لاسيما في الدولة العباسية، وحبس طائفة كموسي بن جعفر وغيره، ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم، ولا دينهم‏.‏
وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه، وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفي، وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله، ولا يجوز أن تتفق علي ذلك أقوال العلماء‏.‏
/وهؤلاء ‏[‏بنو عبيد القداح‏]‏ مازالت علماء الأمة المأمونون علمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من ‏[‏القرامطة الباطنية‏]‏ الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة ـ وأمثالهم من الكفار ـ المنافقون، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل، وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه، وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم، وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة، فوضعوا لهم ‏[‏السابق‏]‏ و ‏[‏التالي‏]‏ و ‏[‏الأساس‏]‏ و ‏[‏الحجج‏]‏ و ‏[‏الدعاوي‏]‏ وأمثال ذلك من المراتب‏.‏ وترتيب الدعوة سبع درجات، آخرها ‏[‏البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم‏]‏ مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك‏.‏
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم؛ وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل علي بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء، فلم يعرف في بني هاشم، ولا ولد أبي طالب، ولا بني أمية من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام، فضلاً عن أن يكون معاديا كمعاداة /هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدي ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة؛ ولهذا نجد جميع المأمونين علي دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو الله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله‏.‏ وهذا مما يدل علي كفرهم، وكذبهم في نسبهم‏.