فَصْــل: وأما سؤال القائل‏:‏ ‏[‏إنهم أصحاب العلم الباطن‏]‏ فهو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة
 
فَصْــل
وأما سؤال القائل‏:‏ ‏[‏إنهم أصحاب العلم الباطن‏]‏ فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل علي أنهم زنادقة منافقون، لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصاري، بل أكثر المشركين علي أنه كفر أيضًا؛ فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر، والنواهي، والأخبار‏.‏
أما ‏[‏الأوامر‏]‏ فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلوات المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق‏.‏
/وأما ‏[‏النواهي‏]‏ فإن الله تعالي حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وأن يقولوا علي الله ما لا يعلمون، كما حرم الخمر، ونكاح ذوات المحارم، والربا والميسر، وغير ذلك‏.‏ فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون، ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية، الذين انتسبوا إلي محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذين يقولون‏:‏ إنهم معصومون، وأنهم أصحاب العلم الباطن، كقولهم‏:‏ ‏[‏الصلاة‏]‏ معرفة أسرارنا، لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة‏.‏ و ‏[‏الصيام‏]‏ كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح‏.‏ و ‏[‏الحج‏]‏ زيارة شيوخنا المقدسين‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏ وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات، بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونكاح الأمهات والبنات، وغير ذلك من المنكرات، ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصاري، فمن يكون هكذا كيف يكون معصومًا‏؟‏‏!‏
وأما ‏[‏الأخبار‏]‏ فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب، بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة، بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته، بل أخبارهم الذي يتبعونها أتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو، ويريدون أن يجمعوا / بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء، كما فعل أصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وهم علي طريقة هؤلاء العبيديين، ذرية ‏[‏عبيد الله بن ميمون القداح‏]‏‏.‏ فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين، أو اليهود، أو النصاري‏:‏ أن ما يقوله أصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ مخالف للملل الثلاث، وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية، والطبيعية، وبعض المنطقية، والإلهية، وعلوم الأخلاق، والسياسة، والمنزل، ما لا ينكر؛ فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به، والتكذيب بكثير مما جاءت به، وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفي علي عارف بملة من الملل‏.‏ فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث‏.‏
ومن أكاذيبهم وزعمهم‏:‏ أن هذه ‏[‏الرسائل‏]‏ من كلام جعفر بن محمد الصادق‏.‏ والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة، وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصاري علي سواحل الشام، ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة‏.‏ وجعفر بن محمد ـ رضي الله عنه ـ توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة؛ إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة، كما في ‏[‏تاريخ الجامع الأزهر‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين، وأنه في سنة اثنين وستين قدم ‏[‏معد بن تميم‏]‏ من المغرب واستوطنها‏.‏
/ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع مبشر ابن فاتك أحد أمرائهم، وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبًا من الجامع الأزهر‏.‏ وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما‏:‏ قال ابن سينا‏:‏ وقرأت من الفلسفة، وكنت أسمع أبي وأخي يذكران ‏[‏العقل‏]‏ و ‏[‏النفس‏]‏، وكان وجوده علي عهد الحاكم، وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه، وما فعله هشكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلي عبادته، ومقاتلته أهل مصر علي ذلك، ثم ذهابه إلي الشام حتي أضل وادي التيم بن ثعلبة‏.‏ والزندقة والنفاق فيهم إلي اليوم، وعندهم كتب الحاكم، وقد أخذتها منهم، وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم، وإسقاطه عنهم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية‏.‏ إلي أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصي‏.‏
وبالجملة ‏[‏فعلم الباطن‏]‏ الذي يدعون؛ مضمونه الكفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه علي درجات فليسوا مستوين في الكفر؛ إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه‏.‏
ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس، والفلاسفة، والرافضة، مثل قولهم‏:‏ ‏[‏السابق‏]‏ و ‏[‏التالي‏]‏ جعلوهما بإزاء ‏[‏العقل‏]‏/ و ‏[‏النفس‏]‏ كالذي يذكره الفلاسفة، وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس‏.‏ وهم ينتمون إلي ‏[‏محمد بن إسماعيل بن جعفر‏]‏ ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن، والأساس، والحجة، والباب، وغير ذلك مما يطول وصفهم‏.‏
ومن وصاياهم في ‏[‏الناموس الأكبر، والبلاغ الأعظم‏]‏ أنهم يدخلون علي المسلمين من ‏[‏باب التشيع‏]‏ وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلاً وعلمًا، وأبعدها عن دين الإسلام علمًا وعملاً، ولهذا دخلت الزنادقة علي الإسلام من باب المتشيعة قديمًا وحديثًا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جري لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما، بل كما جري بتغير المسلمين مع النصاري وغيرهم، فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلي الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلي الطعن في علي وغيره، ثم نقلوه إلي القدح في نبينا وسائر الأنبياء، وقالوا‏:‏ إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم، وكانوا قومًا أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية، ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلي يوسف النجار، وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتي صلبه، فيوافقون اليهود في القدح في المسيح، لكن هم شر من اليهود‏.‏ فإنهم يقدحون في الأنبياء‏.‏ وأما موسي ومحمد فيعظمون أمرهما؛ لتمكنهما وقهر/ عدوهما، ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة، وأن لذلك أسرارًا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين‏.‏
ويقولون‏:‏ إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات، وأخذ أموال الناس بكل طريق، ولم يجب علينا شيء مما يجب علي العامة؛ من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك؛ إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب‏.‏
وفي ‏[‏إثبات واجب الوجود‏]‏ المبدع للعالم علي قولين لأئمتهم، تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود؛ ويستهينون بذكر الله واسمه حتي يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله؛ وأمثال ذلك من كفرهم كثير‏.‏ وذو الدعوة التي كانت مشهورة، والإسماعيلية الذين كانوا علي هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان؛ وبأرض اليمن وجبال الشام، وغير ذلك، كانوا علي مذهب العبيديين المسؤول عنهم؛ وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية؛ وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلي مصر في دولة المستنصر، وكان أطولهم مدة، وتلقي عنه أسرارهم‏.‏
وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي،/ واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلي العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا علي المنابر‏:‏ ‏[‏حي علي خير العمل‏]‏ حتي جاء الترك ‏[‏السلاجقة‏]‏ الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلي مصر، وكان من أواخرهم ‏[‏الشهيد نور الدين محمود‏]‏ الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصاري؛ ثم بعث عسكره إلي مصر لما استنجدوه علي الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر، فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتي سكنها حينئذ من أظهر بها دين الإسلام‏.‏
وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل، كما حكي ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفًًا أن يقتلوه، وكانوا ينادون بين القصرين‏:‏ من لعن وسب، فله دينار وإردب‏.‏ وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة، بل يتكلم فيها بالكفر الصريح، وكان لهم مدرسة بقرب ‏[‏المشهد‏]‏ الذي بنوه ونسبوه إلي الحسين وليس فيه الحسين، ولا شيء منه باتفاق العلماء‏.‏ وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين، بل المنطق، والطبيعة، والإلهي، ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة‏.‏ وبنوا أرصادًا علي / الجبال وغير الجبال، يرصدون فيها الكواكب، يعبدونها، ويسبحونها، ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل علي المشركين الكفار، كشياطين الأصنام، ونحو ذلك‏.‏
و ‏[‏المعز بن تميم بن معد‏]‏ أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلامًا معروفًا عند أتباعه؛ وليس هذا ‏[‏المعز بن باديس‏]‏، فإن ذاك كان مسلمًا من أهل السنة، وكان رجلاً من ملوك المغرب؛ وهذا بعد ذاك بمدة‏.‏ ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتي قالت فيها العلماء‏:‏ إنها كانت دار ردة ونفاق، كدار مسيلمة الكذاب‏.‏
و ‏[‏القـرامطـة‏]‏ الخارجيـن بأرض العـراق الذين كانـوا سلفًا لهؤلاء القـرامطـة، ذهبـوا مـن العـراق إلي المغرب، ثم جاؤوا من المغرب إلي مصر ؛ فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرًا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين؛ فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء؛ ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار؛ فإن قبورهم موجهة إلي غير القبلة‏.‏
وإذا أصاب الخيل مغل أتوا بها إلي قبورهم، كما يأتون بها إلي قبور الكفار، وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلي قبور / النصاري بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما ذهبوا بها إلي قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلي قبور اليهود والنصاري، أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف، وليسوا من الأشراف‏.‏ ولا يذهبون بالخيل إلي قبور الأنبياء والصالحين، ولا إلي قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرب معلوم عند الجند وعلمائهم‏.‏ وقد ذكر سبب ذلك‏:‏ أن الكفار يعاقبون في قبورهم، فتسمع أصواتهم البهائم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان راكبًا علي بغلته، فمر بقبور فحادت به، كادت تلقيه، فقال‏:‏ ‏(‏هذه أصوات يهود تعذب في قبورها‏)‏، فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل، وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم، فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصاري والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين، وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها؛ إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار، تبين بذلك ما كان مشتبهًا‏.‏
ومن علم حوادث الإسلام،وما جري فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين، علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عدواة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدًا، بل إبطال جميع المرسلين،وأنهم لا يقرون / بما جاء به الرسول عن الله،ولا من خبره، ولا من أمره، وأن لهم قصدًا مؤكدًا في إبطال دعوته وإفساد ملته، وقتل خاصته واتباع عترته، وأنهم في معاداة الإسلام، بل وسائر الملل، أعظم من اليهود والنصاري، فإن اليهود والنصاري يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل؛ كإثبات الصانع، والرسل، والشرائع، واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل، كما قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150، 151‏]‏‏.‏
وأما هؤلاء القرامطة، فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل، يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به، لا يظهرونه، كما يظهر أهل الكتاب دينهم؛ لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور،بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارًا يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور، ويرون كتمان مذهبهم، واستعمال التقية، وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلمًا في الباطن ولا يكون زنديقًا، لكن يكون جاهلاً مبتدعًا‏.‏ وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوي لكن جمهور الناس يخالفونهم، فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصاري‏.‏
/وإنما يقرب منهم ‏[‏الفلاسفة المشاؤون أصحاب أرسطو‏]‏، فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة‏.‏
ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة؛ كسنان الذي كان بالشام، والطوسي الذي كان وزيرًا لهم بالألموت، ثم صار منجمًا لهؤلاء وملك الكفار، وصنف ‏[‏شرح الإشارات لابن سينا‏]‏وهو الذي أشار علي ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم علي الذين يسمونهم ‏[‏الداسميدية‏]‏، فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل، لكن يكون أحدهم متفلسفًا، ويدخل معهم لموافقتهم له علي ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر، وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل‏.‏
فإن ‏[‏المتفلسفة‏]‏ متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم، وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة، بل يوجبونها علي العامة، ويوجبون بعضها علي الخاصة، أو لا يوجبون ذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور، ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة، وإن كان هو كذبًا في الحقيقة‏.‏
ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة، كما فعل ‏[‏ابن التومرت‏]‏ الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة / لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقًا مكذبًا للرسل معطلاً للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطنًا يخالف ظاهرها، بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب‏.‏
فهؤلاء ‏[‏القرامطة‏]‏ هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصاري، وأما في الظاهر فيدعون الإسلام، بل وإيصال النسب إلي العترة النبوية، وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء، وأن إمامهم معصوم‏.‏ فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوي بحقائق الإيمان، وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعي النبوة من الكذابين، قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏ وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا‏.‏
فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو؛ إما أن يدعي مثل دعوته، فيقول‏:‏ إن الله أرسلني وأنزل علي، وكذب علي الله‏.‏ أو يدعي أنه يوحي إليه ولا يسمي موحيه، كما يقول‏:‏ قيل لي، ونوديت، وخوطبت، ونحو ذلك، ويكون كاذبًا، فيكون هذا قد حذف الفاعل‏.‏ أو لا يدعي واحدًا من الأمرين، لكنه يدعي أنه يمكنه أنه يأتي بما أتي به الرسول‏.‏ ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول‏:‏ إما أن يضيفه إلي الله، أو إلي نفسه أو لا يضيفه إلي أحد‏.‏
/فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصاري، فكيف بالقرامطة الذين يكذبون علي الله أعظم مما فعل مسيلمة، وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة، وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة‏.‏ وبسط حالهم يطول، لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا‏.‏
وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم علي ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، الموالي لهم، الناصر لهم بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم، ويعظمونهم، وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق‏.‏ فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد، فإن نسبة هؤلاء إلي الجهمية كنسبة أولئك إلي الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير؛ ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية‏.‏ وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح؛ ولكن لا يفهم كلامهم، ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين‏.‏ وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏