وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِي الله عنهُمَا، قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دُبِغَ الإهَابُ فقدَ طَهُرَ" أخرجهُ مسلم
 
وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِي الله عنهُمَا، قالَ: قالَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا دُبِغَ الإهَابُ فقدَ طَهُرَ" أخرجهُ مسلم.
وعند الأربعة "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ".
(وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (إذا دبغَ الإهابُ) بزنة كتاب هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهاية (فقد طهر) بفتح الطاء والهاء ويجوز ضمها كما يفيده القاموس (أخرجه مسلم) بهذا اللفظ (وعند الأربعة) وهم أهل السنن: (أيُّما إهابٍ دُبغ) تمامه "فقد طهر".
والحديث أخرجه الخمسة، إنما اختلف لفظه، وقد روى بألفاظ، وذكر له سبب، وهو: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة لميمونة فقال: "ألا استمتعتُم بإهابها فإنَّ دباغ الأديم طَهورٌ"، وروى البخاري: من حديث سودة قالت: "ماتت لَنَا شاةٌ فدبغنا مَسْكَها ثُمَّ ما زلنا ننْتبذُ فيه حتى صار شَناً".
والحديث دليل على أنّ الدباغ، مطهر لجلد ميتة كلّ حيوان، كما يفيده عموم كلمة "أيما"، وأنه يطهر باطنه وظاهره.
وفي المسألة سبعة أقوال:
الأول: أنّ الدباغ يطهر جلد الميتة باطنه وظاهره، ولا يخص منه شيء، عملاً بظاهر حديث ابن عباس وما في معناه. وهذا مروي عن علي عليه السلام، وابن مسعود.
والثاني من الأقوال: أنه لا يطهر الدباغ شيئاً، وهو مذهب جماهير الهادوية، ويروى عن جماعة من الصحابة مستدلين بحديث الشافعي الذي أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، والأربعة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان: عن عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قبل موته: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وفي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهر، أو شهرين. قال الترمذي: حسن. وكان أحمد يذهب إليه ويقول: هذا آخر الأمرين، ثم تركه، قالوا ــــ أي: الهادوية: وهذا الحديث ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من الميتة بإهابها وعصبها.
وأجيب عنه بأجوبة.
الأول: أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روى تارة عن كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وتارة عن مشايخ من جهينة عمن قرأ كتاب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. ومضطرب أيضاً في متنه، فروى من غير تقييد في رواية الأكثر، وروى بالتقييد بشهر، أو شهرين، أو أربعين يوماً، أو ثلاثة أيام، ثم إنه معلّ أيضاً بالإرسال؛ فإنه لم يسمعه عبد الله بن عكيم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ومعلّ بالانقطاع؛ لأنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخراً، وكان يذهب إليه أولاً، كما قال عنه الترمذي.
وثانياً: بأنه لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح؛ فإنه مما اتفق عليه الشيخان. وأخرج مسلم، وروى من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، فعن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحبق، وعائشة، والمغيرة، وأبي أمامة، وابن مسعود. ولأن الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ. على أنها لو كانت رواية التاريخ صحيحة، ما دلت على أنه آخر الأمرين جزماً.
ولا يقال: فإذا لم يتم النسخ تعارض الحديثان، حديث عبد الله بن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف؛ لأنا نقول: لا تعارض إلا مع الاستواء وهو مفقود، كما عرفت من صحة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم.
وثالثاً: بأن الإهاب كما عرفت عن القاموس والنهاية: اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر بن شميل: ــــ الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري قيل: فلما احتمل الأمرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما: بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن.
الثالث: يطهر جلد ميتة المأكول لا غيره، لكن يرده عموم "أيما إهاب".
الرابع: يطهر الجميع إلاّ الخنزير؛ فإنه لا جلد له وهو مذهب أبي حنيفة.
الخامس: يطهر إلاّ الخنزير لكن، لا لكونه لا جلد له، بل لكونه رجساً لقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والضمير للخنزير، فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة، وهو قول الشافعي.
السادس: يطهر الجميع، لكن ظاهره دون باطنه، فيستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه ولا يصلى فيه، وهو مروي عن مالك جمعاً منه بين الأحاديث لما تعارضت.
السابع: ينتفع بجلود الميتة، وإن لم تدبغ ظاهراً وباطناً؛ لما أخرجه البخاري من رواية ابن عباس أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر بشاة ميتة، فقال: "هلا انتفعتم بإهابه؟ قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها" وهو رأي الزهري. وأجيب عنه: بأنه مطلق قيدته أحاديث الدباغ التي سلفت.