وعنه رضي الله عنه قال: لَمّا كان يَوْمُ خَيْبَر، أَمَرَ رَسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا طَلْحَةَ، فَنَادَى: "إنَّ الله ورَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيّةِ، فإنها رِجْسٌ" متفق عليه..
 

(وعنه) أي: عن أنس بن مالك (قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم) بتثنية الضمير لله تعالى ولرسوله.
وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال للخطيب الذي قال في خطبته: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما الحديث: "بئس خطيب القوم أنت" لجمعه بين ضمير الله تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقال: قل: "ومن يعص الله ورسوله". فالواقع هنا يعارضه، وقد وقع أيضاً في كلامه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم التثنية بلفظ "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
وأجيب بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم نهى الخطيب؛ لأن مقام الخطابة يقتضي البسط والإيضاح، فأرشده إلى أنه يأتي بالاسم الظاهر، لا بالضمير، وأنه ليس العتب عليه من حيث جمعه بين ضميره تعالى وضمير رسوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. الثاني أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له أن يجمع بين الضميرين وليس لغيره لعلمه بجلال ربه وعظمة الله.
(عن لحوم الحمر الأهلية) كما يأتي (فإنها رجس. متفق عليه) وحديث أنس في البخاري: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور بالحمر".
والنهي عن لحوم الحمر الأهلية ثابت في حديث علي عليه السلام، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى، والبراء، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، والعرباض بن سارية، وخالد بن الوليد، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمقدام بن معديكرب، وابن عباس، وكلها ثابتة في دواوين الإسلام، وقد ذكر من أخرجها في الشرح. وهي دالة على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، وتحريمها هو قول الجماهير من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم؛ لهذه الأدلة.
وذهب ابن عباس إلى عدم تحريم الحمر الأهلية؛ وفي البخاري عنه: لا أدري أنهي عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس، أو حرمت؟ ولا يخفى ضعف هذا القول؛ لأن الأصل في النهي التحريم وإن جهلنا علته، واستدل ابن عباس بعموم قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الاية، فإنه تلاها جواباً لمن سأله عن تحريمها، ولحديث أبي داود: "أنه جاء إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم غالب بن أبجر فقال: يا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أصابتنا سنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" يريد التي تأكل الجلة وهي العذرة.
وأجيب: بأن الاية خصت عمومها الأحاديث الصحيحة المتقدمة، وبأن حديث أبي داود مضطرب مختلف فيه اختلافاً كثيراً، وإن صح حمل على الأكل منها عند الضرورة، كما دل عليه قوله: أصابتنا سنة، أي شدة وحاجة.
وذكر المصنف لهذين الحديثين في باب النجاسات وتعدادها مبني على أن التحريم من لازمه التنجيس، وهو قول الأكثر، وفيه خلاف.
والحق: أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلزم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكذا المخدرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها. وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نَجس محرم ولا عكس؛ وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب، وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً.
فإذا عرفت هذا فتحريم الحمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستهما، بل لا بد من دليل اخر عليه، وإلا بقيتا على الأصل المتفق عليه من الطهارة. فمن ادعى خلافه فالدليل عليه، ولذا نقول: لا حاجة إلى إتيان المصنف بحديث عمرو بن خارجة الاتي قريباً مستدلاً به على طهارة لعاب الراحلة. وأما الميتة فلولا أنه ورد: "دباغ الأديم طهوره" "وأيما إهاب دبغ فقد طهر" لقلنا بطهارتها؛ إذ الوارد في القران تحريم أكلها، لكن حكمنا بالنجاسة لما قام عليها دليل غير دليل تحريمها.