وعن عائشة رَضِي الله عنها، قالت: كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثم يخرُجُ إلى الصَّلاة في ذلك الثّوبِ، وأنَا أَنْظُرُ إلى أثَرِ الْغَسْلِ. متفق عليه.
 

ولمسْلمٍ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَرْكاً، فَيُصَلي فِيهِ.
وفي لفظ له: لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يابساً بظُفْري مِنْ ثَوْبِهِ.
(وعن عائشة رضي الله عنها) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق. أمها أم رومان ابنة عامر. خطبها النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بمكة، وتزوجها في شوال سنة عشرة من النبوة، وهي بنت ست سنين، وعرس بها أي دخل بها في المدينة في شوال سنة ثنتين من الهجرة وقيل: غير ذلك، وهي بنت تسع سنين من غير اعتبار الكسر ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكراً غيرها، واستأذنت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في الكنية، فقال لها: تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة، كثيرة الحديث عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، نزلت براءتها من السماء في عشر ايات في سورة النور. توفي رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في بيتها، ودفن فيه، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان في المدينة.
(قالت: كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يغسلُ المنيَّ، ثم يخرُجُ إلى الصَّلاة في ذلك الثّوب، وأنا أنظرُ إلى أثر الغسل فيه. متفق عليه) وأخرجه البخاري أيضاً من حديث عائشة بألفاظ مختلفة: وأنها كانت تغسل المني من ثوبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفي بعضها: "وأثَرُ الغسل في ثوبهِ بقع الماء" وفي لفظ: "فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه" وفي لفظ: "وأثر الغسل فيه بقع الماء" وفي لفظ: "ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً". إلا أنه قد قال البزار: إن حديث عائشة هذا مداره على سليمان بن يسار، ولم يسمع من عائشة، وسبقه إلى هذا الشافعي في الأم حكاية عن غيره. ورد ما قاله البزار بأن تصحيح البخاري له، وموافقة مسلم له على تصحيحه مفيد لصحة سماع سليمان من عائشة، وأن رفعه صحيح.
وبهذا الحديث استدل من قال: بنجاسة المني وهم الهادوية، والحنفية، ومالك، ورواية عن أحمد قالوا: لأن الغسل لا يكون إلا عن نجس، وقياساً على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط؛ لانصباب جميعها إلى مقر وانحلالها عن الغذاء؛ ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها؛ ولأنه يجري من مجرى البول، فتعين غسله بالماء كغيره من النجاسات، وتأولوا ما يأتي مما يفيده قوله: (ولمُسلم) أي عن عائشة رواية انفرد بلفظها عن البخاري وهي قولها: (لقد كنتُ أفرُكُهُ من ثَوْبِ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَرْكاً) مصدر تأكيدي يقرر أنها كانت تفركه وتحكه، والفرك: الدلك، يقال: فرك الثوب، إذا دلكه (فيصلي فيه، وفي لفظ له) أي لمسلم عن عائشة: (لقد كنتُ أحُكُهُ) أي المني حال كونه (يابساً بظفري من ثوبه). اختص مسلم بإخراج رواية الفرك، ولم يخرجها البخاري.
وقد روى الحت والفرك أيضاً البيهقي، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجوزي، من حديث عائشة، ولفظ البيهقي: "ربما حتته من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" ولفظ الدارقطني، وابن خزيمة: "أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي"، ولفظ ابن حبان: "لقد رأيتني أفرك المني من ثوب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وهو يصلي" رجاله رجال الصحيح؛ وقريب من هذا الحديث: حديث ابن عباس عند الدارقطني. والبيهقي، وقال البيهقي بعد إخراجه: ورواه وكيع، وابن أبي ليلى موقوفاً على ابن عباس، وهو الصحيح اهـ. سئل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن المني يصيب الثوب فقال: "إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق والبزاق وقال: إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة".
فالقائلون بنجاسة المني: تأولوا أحاديث الفرك هذه: بأن المراد به الفرك مع غسله بالماء وهو بعيد.
وقالت الشافعية: المني طاهر، واستدلوا على طهارته بهذه الأحاديث قالوا: وأحاديث غسله محمولة على الندب، وليس الغسل دليل النجاسة، فقد يكون لأجل النظافة، وإزالة الدرن، ونحوه. قالوا: وتشبيهه بالبزاق والمخاط دليل على طهارته أيضاً، والأمر بمسحه بخرقة، أو إذخرة لأجل إزالة الدرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلى، ولو كان نجساً لما أجزأ مسحه. وأما التشبيه للمني بالفضلات المستقذرة من البول والغائط، كما قاله من قال بنجاسته، فلا قياس مع النص.
قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما هي في منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وفضلاته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم طاهرة فلا يلحق به غيره.
وأجيب عنه: بأن عائشة أخبرت عن فرك المني من ثوبه، فيحتمل أنه عن جماع، وقد خالطه مني المرأة، فلم يتعين أنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحده، والاحتلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز؛ لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم ولأنه قيل إنه منيه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخالطه غيره، فهو محتمل، ولا دليل مع الاحتمال.
وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم؛ ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر، أو الخرقة عملاً بالحديثين. وبين الفريقين القائلين بالنجاسة، والقائلين بالطهارة مجادلات، ومناظرات، واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي شرح العمدة.