وعن عائشة رضي الله عَنْهَا قالتْ: جاءَتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيش إلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقَالَتْ: يا رسولَ الله، إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: "لا، إنّمَا ذلِكَ عِرْقٌ ولَيْسَ بحَيْضٍ، فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي" متفق عليه. وللبخاريِّ: "ثمَّ تَوَضَّأي لِكُلِّ صلاةٍ" وأشار مُسْلمٌ إلى أنهُ حَذَفَها عَمْداً.
 

(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنتُ أبي حُبَيْش) حبيش بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية فشين معجمة. وفاطمة قرشية أسدية، وهي زوج عبد الله بن جحش (إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُسْتَحاض) من الاستحاضة وهي: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه (فلا أطْهُرُ أفأدعُ الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث (عرق) بكسر العين المهملة وسكون الراء فقاف، وفي فتح الباري: أن هذا العرق يسمى العاذل بعين مهملة وذال معجمة، ويقال: عاذر: بالراء بدلاً عن اللام، كما في القاموس (وليس بحيض) فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر؛ لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنّت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت: أن الحائض لا تصلي، فظنّت أنّ ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه ليس بحيض، وأنها طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُك) بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالإقبال: ابتداء دم الحيض (فدعي الصلاة) يتضمّن: نهي الحائض عن الصلاة، وتحريم ذلك عليها، وفساد صلاتها، وهو إجماع (وإذا أدْبَرَتْ) هو ابتداء انقطاعها (فاغْسلي عنك الدمَ) أي: واغتسلي، وهو مستفاد من أدلة أخرى (ثم صلي. متفق عليه).
الحديث دليل على وقوع الاستحاضة، وعلى أنّ لها حكماً يخالف حكم الحيض، وقد بيّنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكمل بيان، فإنه أفتاها بأنها لا تدع الصلاة مع جريان الدم، وبأنها تنتظر وقت إقبال حيضها، فتترك الصلاة فيها، وإذا أدبرت غسلت الدم، واغتسلت كما ورد في بعض طرق البخاري: "واغتسلي". وفي بعضها كرواية المصنف هنا: الاقتصار على غسل الدم.
والحاصل: أنه قد ذكر الأمران في الأحاديث الصحيحة غسل الدم، والاغتسال. وإنما بعض الرواة اقتصر على أحد الأمرين، والاخر على الاخر. ثم أمرها بالصلاة بعد ذلك. نعم، وإنما بقي الكلام في معرفتها لإقبال الحيض مع استمرار الدم بماذا يكون؟ فإنه قد أعلم الشارع المستحاضة بأحكام إقبال الحيضة، وإدبارها، فدل على أنها تميز ذلك بعلامة. وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما: أنها تميّز ذلك بالرجوع إلى عادتها، فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها انقضاء أيام العادة، وورد الردّ إلى أيام العادة في حديث فاطمة في بعض الروايات بلفظ: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"، وسيأتي في باب الحيض تحقيق الكلام على ذلك.
الثاني: ترجع إلى صفة الدم، كما يأتي في حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش هذه بلفظ: "إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الاخر فتوضئي، وصلي، ويأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى، فيكون إقبال الحيض إقبال الصفة، وإدباره إدبارها، ويأتي أيضاً الأمر بالرد إلى عادة النساء، ويأتي تحقيق ذلك جميعاً، ويأتي بيان اختلاف العلماء، وأن كلا ذهب إلى القول بالعمل بعلامة من العلامات.
(وللبخاري) أي: من حديث عائشة هذا زيادة: (ثم توضئي لكُلّ صلاة، وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً) فإنه قال في صحيحه بعد سياق الحديث: وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره. قال البيهقي: هو قوله: "توضئي"؛ لأنها زيادة غير محفوظة، وأنه تفرد بها بعض الرواة عن غيره ممن روى الحديث. وقد قرر المصنف في الفتح: أنها ثابتة من طرق ينتفي معها تفرد من قاله مسلم.
واعلم أن المصنف ساق حديث المستحاضة في باب النواقض، وليس المناسب للباب إلا هذه الزيادة، لا أصل الحديث، فإنه من أحكام باب الاستحاضة والحيض، وسيعيده هنالك، فهذه الزيادة هي الحجة على أنّ دم الاستحاضة حدث، من جملة الأحداث، ناقض للوضوء، ولهذا أمر الشارع بالوضوء منه لكل صلاة؛ لأنه إنما رفع الوضوء حكمه لأجل الصلاة، فإذا فرغت من الصلاة نقض وضوؤها، وهذا قول الجمهور: أنها تتوضأ لكل صلاة.
وذهبت الهادوية والحنفية: إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وأن الوضوء متعلق بالوقت، وأنها تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من النوافل، وتجمع بين الفريضتين على وجه الجواز عند من: يجيز ذلك، أو لعذر، وقالوا: الحديث فيه مضاف مقدر وهو: لوقت كل صلاة فهو من مجاز الحذف؛ ولكنه لا بدّ من قرينة توجب التقدير؛ وقد تكلف في الشرح: إلى ذكر ما لعله يقال: إنه قرينة للحذف، وضعفه.
وذهبت المالكية: إلى أنه يستحب الوضوء ولا يجب إلاّ لحدث اخر.
وسيأتي تحقيق ما في ذلك في حديث حمنة بنت جحش في باب الحيض إن شاء الله تعالى، وتأتي أحكام المستحاضة التي تجوز لها، وتفارق بها الحائض هنالك فهو محل الكلام عليها، وفي الشرح سرده هناك، وأما هنا فما ذكر حديثهما إلا باعتبار نقض الاستحاضة للوضوء.

الموضوع السابق


عن أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عَهْدِه ينتظرون العشاء حتى تخْفقَ) من باب ضرب يضرب: أي: تميل (رُؤوسُهُمْ) أي من النوم (ثم يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضأونَ. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم) وأخرجه الترمذي، وفيه "يوقظون للصلاة"، وفيه "حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون". وحمله جماعة من العلماء على نوم الجالس، ودفع هذا التأويل: بأن في رواية عن أنس: "يضعون جنوبهم" رواها يحيى القطان.