وعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهُ قال: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فأمَرْتُ المِقْدَادَ أنْ يَسْأَلَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فسَأَلَهُ، فقَالَ: "فيهِ الْوُضُوءُ" متفقٌ عليهِ، واللفظ للبخاري.
 

(وعن علي عليه السلام قال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً) بزنة ضراب صيغة مبالغة من المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، وفيه لغات، وهو ماء أبيض لزج رقيق يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، يقال: مذى زيد يمذي، مثل: مضى يمضي، وأمذى يمذي، مثل: أعطى يعطي (فأَمَرْتُ المقْدَادَ) وهو ابن الأسود الكندي (أنْ يسألَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: عما يجب على مَنْ أمذى، فسأله (فقال: فيه الوُضُوءُ. متفق عليه واللفظ للبخاري).
وفي بعض ألفاظه عند البخاري بعد هذا: "فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
"وفي لفظ: "لمكان ابنته مني" وفي لفظ لمسلم: "لمكان فاطمة".
ووقع عند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة عن علي عليه السلام بلفظ: "كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري". وزاد في لفظ للبخاري فقال: "توضأ واغسل ذكرك"، وفي مسلم: "اغسل ذكرك وتوضأ"، وقد وقع اختلاف في السائل هل هو المقداد كما في هذه الرواية، أو عمار كما في رواية أخرى؟ وفي رواية أخرى: أن علياً رضي الله عنه هو السائل.
وجمع ابن حبان بين ذلك: بأن علياً عليه السلام أمر المقداد أن يسأل، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب: بأن قوله: فاستحييت أن أسأل لمكان ابنته مني: دالّ على أنه رضي الله عنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية مَنْ قال: إنّ علياً سأل: مجاز؛ لكونه الامر بالسؤال.
والحديث دليل على أنّ المذي ينقض الوضوء، ولأجله ذكره المصنف في هذا الباب، ودليل على أنه لا يوجب غسلاً، وهو إجماع، ورواية "توضأ واغسل ذكرك" لا تقتضي تقديم الوضوء؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن لفظ رواية مسلم تبين المراد، وأما إطلاق لفظ (ذكرك) فهو ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك، إذ الواجب غسل محل الخارج، وإنما هو من إطلاق اسم الكل على البعض، والقرينة ما علم من قواعد الشرع.
وذهب البعض إلى أنه يغسله كله عملاً بلفظ الحديث، وأيده رواية أبي داود: "يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ"، وعنده أيضاً: "فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ للصلاة" إلا أنّ رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها، وأوضحناه في حواشي ضوء النهار، وذلك أنها من رواية عروة، عن علي، وعروة لم يسمع من علي، إلا أنه رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق عبيدة، عن علي بالزيادة. قال المصنف في التلخيص: وإسناده لا مطعن فيه، فمع صحتها فلا عذر عن القول بها.
وقيل: الحكمة فيه: أنه إذا غسله كله تقلص فبطل خروج المذي، واستدل بالحديث عن نجاسة المذي.
وعن عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وعن عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ. أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وأبو داود أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فهو مرسل. وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل. قال المصنف: روى من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعّفها. وقال ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس.
إذا عرفت هذا، فالحديث دليل على أن لمس المرأة، وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وعليه الهادوية جميعاً، ومن الصحابة علي عليه السلام.
وذهبت الشافعية: إلى أنّ لمس من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}. فلزم الوضوء من اللمس. قالوا: واللمس حقيقة في اليد، ويؤيد بقاءه على معناه قراءة: "أو لمستم النساء". فإنها ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة فعل، وهذا يحقّق بقاء اللفظ على معناه الحقيقي، فقراءة: "أو لامستم النساء" كذلك، إذ الأصل اتفاق معنى القراءتين.
وأجيب عن ذلك: بصرف النظر عن معناه الحقيقي للقرينة فيحمل على المجاز، وهو هنا: حمل الملامسة على الجماع، واللمس كذلك، والقرينة حديث عائشة المذكور، وهو وإن قدح فيه بما سمعت، فطرقه يقوي بعضها بعضاً. وحديث عائشة في البخاري: "في أنها كانت تعترض في قبلته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإذا قام يصلي غمزها فقبضت رجليها ــــ أي عند سجوده ــــ وإذا قام بسطتهما"، فإنه يؤيد حديث الكتاب المذكور، ويؤيد بقاء الأصل، ويدل على أنه ليس اللمس بناقض. وأما اعتذار المصنف في فتح الباري عن حديثها هذا: بأنه يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به، فإنه بعيد مخالف للظاهر.
وقد فسر علي عليه السلام الملامسة بالجماع. وفسرها حبر الأمة ابن عباس بذلك، وهو المدعو له بأن يعلمه الله التأويل، فأخرج عنه عبد بن حميد أنه فسر الملامسة بعد أن وضع أصبعيه في أذنيه: ألا وهو النيك، وأخرج عنه الطستي أنه سأله نافع بن الأزرق عن الملامسة، ففسرها بالجماع، مع أن تركيب الاية الشريفة وأسلوبها يقتضي أن المراد بالملامسة الجماع؛ فإنه تعالى عدّ من مقتضيات التيمم المجيء من الغائط تنبيهاً على الحدث الأصغر، وعدّ الملامسة تنبيهاً على الحدث الأكبر، وهو مقابل لقوله تعالى في الأمر بالغسل بالماء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـ كِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ولو حملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء في رفعه للحدث الأكبر، وخالف صدر الاية.
وللحنفية تفاصيل لا ينهض عليها دليل.

الموضوع السابق


وعن عائشة رضي الله عَنْهَا قالتْ: جاءَتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيش إلى النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقَالَتْ: يا رسولَ الله، إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: "لا، إنّمَا ذلِكَ عِرْقٌ ولَيْسَ بحَيْضٍ، فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي" متفق عليه. وللبخاريِّ: "ثمَّ تَوَضَّأي لِكُلِّ صلاةٍ" وأشار مُسْلمٌ إلى أنهُ حَذَفَها عَمْداً.