وعن سلمانَ رضي الله عنه قالَ: لَقَدْ نهَانَا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنْ نَسْتَقبلَ القبلَةَ بغائِطٍ أوْ بوْلٍ، أو أنْ نسْتَنْجيَ باليَمينِ، أو نَسْتَنْجِي بأقَلَّ منْ ثلاثَةِ أحْجارٍ، أو أن نَسْتَنْجيَ بِرَجيعٍ أوْ عَظْمٍ". رواهُ مسلمٌ.
 

(وعن سلمان) هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير، مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أصله من فارس، سافر لطلب الدين، وتنصّر، وقرأ الكتب، وله أخبار طويلة نفيسة، ثم تنقل حتى انتهى إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فامن به وحسن إسلامه، وكان رأساً في أهل الإسلام، وقال فيه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "سلمان منا أهل البيت"، وولّاه عمر المدائن، وكان من المعمرين، قيل: عاش مائتين وخمسين سنة.
وقيل: ثلاثمائة وخمسين، وكان يأكل من عمل يده، ويتصدّق بعطائه. مات بالمدينة سنة خمسين، وقيل: اثنتين وثلاثين.
(قال: لقد نهانا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن نستقْبلَ القبْلَةَ بغائط أو بَوْل) المراد أن نستقبل بفروجنا عند خروج الغائط أو البول (أو أن نسْتَنْجي باليَمين) وهذا غير النهي عن مس الذكر باليمين عند البول الذي مرَّ (أو أنْ نسْتَنْجِيَ بأقَلَّ من ثلاثةَ أحْجار) الاستنجاء: إزالة النجو بالماء، أو الحجارة (أو أن نستنجي برجيع) وهو الروث (أو عظم. رواه مسلم).
الحديث فيه النهي عن استقبال القبلة، وهي الكعبة، كما فسرها حديث أبي أيوب في قوله: "فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف ونستغفر الله"، وسيأتي، ثم قد ورد النهي عن استدبارها أيضاً، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: "إذا جلس أحدكم لحاجته، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها" وغيره من الأحاديث.
واختلف العلماء هل هذا النهي للتحريم، أو لا؟
على خمسة أقوال:
الأول: أنه للتنزيه بلا فرق بين الفضاء والعمران، فيكون مكروهاً، وأحاديث النهي محمولة على ذلك بقرينة حديث جابر: "رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة" أخرجه أحمد، وابن حبان، وغيرهما، وحديث ابن عمر: "أنه رأى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقضي حاجته مستقبلاً لبيت المقدس مستدبراً للكعبة" متفق عليه. وحديث عائشة: "فحولوا مقعدتي إلى القبلة" المراد بمقعدته ما كان يقعد عليه حال قضاء حاجته إلى القبلة: رواه أحمد، وابن ماجه، وإسناده حسن.
وأول الحديث: أنه ذكر عند رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قوم يكرهون أن يستقبلوا بفرجهم القبلة قال: "أراهم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي القبلة" هذا لفظ ابن ماجه: وقال الذهبي في الميزان: في ترجمة خالد بن أبي الصلت: هذا الحديث منكر.
الثاني: أنه محرّم فيهما، لظاهر أحاديث النهي، والأحاديث التي جعلت قرينة على أن للتنزيه محمولة على أنها كانت لعذر، ولأنها حكاية فعل، لا عموم لها.
الثالث: أنه مباح فيهما قالوا: وأحاديث النهي منسوخة بأحاديث الإباحة؛ لأن فيها التقييد بقبل عام ونحوه، واستقواه في الشرح.
الرابع: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في العمران فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت بقيت الصحارى على التحريم. وقد قال ابن عمر: "إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس به" رواه أبو داود وغيره، وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك.
الخامس: الفرق بين الاستقبال فيحرم فيهما، ويجوز الاستدبار فيهما، وهو مردود بورود النهي فيهما على سواء. فهذه خمسة أقوال. أقربها الرابع.
وقد ذكر عن الشعبي: أنّ سبب النهي في الصحراء: أنها لا تخلو عن مصلِّ من مَلَك أو ادمي أو جني: فربما وقع بصره على عورته، رواه البيهقي. وقد سئل: أي الشعبي، عن اختلاف الحديثين: حديث ابن عمر أنه راه يستدبر القبلة، وحديث أبي هريرة في النهي، فقال: صدقا جميعاً. أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء، فإن لله عباداً ملائكة وجنّا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط، ولا يستدبرهم. وأما كنفكم فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها، وهذا خاص بالكعبة.
وقد ألحق بها بيت المقدس لحديث أبي داود: "نهى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن استقبال القبلتين بغائط أو بول"، وهو حديث ضعيف، لا يقوى على رفع الأصل، وأضعف منه القول بكراهة استقبال القمرين؛ لما يأتي في الحديث الثاني عشر.
والاستنجاء باليمنى تقدم الكلام عليه.
وقوله: "أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" يدل على أنه لا يجزىء أقل من ثلاثة أحجار، وقد ورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس: "حجران للصفحتين وحجر للمسربة" وهي بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة مجرى الحدث من الدبر.
وللعلماء خلاف في الاستنجاء بالحجارة:
فالهادوية على أنه لا يجب الاستنجاء إلا على المتيمم، أو من خشي تعدي الرطوبة ولم تزل النجاسة بالماء، وفي غير هذه الحالة مندوب لا واجب، وإنما يجب الاستنجاء بالماء للصلاة.
وذهب الشافعي إلى أنه مخيّر بين الماء، والحجارة، أيهما فعل أجزأه.
وإذا اكتفى بالحجارة، فلا بد عنده من الثلاث المسحات، ولو زالت العين بدونها، وقيل: إذا حصل الإنقاء بدون الثلاث أجزأ، وإذا لم يحصل بثلاث، فلا بدّ من الزيادة، ويندب الإيتار. ويستحب التثليث في القبل والدبر فتكون ستة أحجار، وورد ذلك في حديث.
قلت: إلا أن الأحاديث لم تأتِ في طلبه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرها إلا بثلاثة أحجار، وجاء بيان كيفية استعمالها في الدبر، ولم يأتِ في القبل، ولو كانت الست مرادة لطلبها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عند إرادته التبرز، ولو في بعض الحالات، فلو كان حجر له ستة أحرف أجزأ المسح به.
ويقوم غير الحجارة مما ينقي مقامها:
خلافاً للظاهرية فقالوا: بوجوب الأحجار تمسكاً بظاهر الحديث.
وأجيب: بأنه خرج على الغالب؛ لأن المتيسَّر، ويدل على ذلك نهيه أن يستنجى برجيع أو عظم. ولو تعيّنت الحجارة لنهى عما سواها، وكذلك نهى عن الحمم، فعند أبي داود: "مُرْ أمّتك أن لا يستنجوا بروثة أو حممة؛ فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً" فنهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم عن ذلك.
وكذلك ورد في العظم: أنها من طعام الجن، كما أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود، وفيه: "أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم للجن لما سألوه الزاد: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم".
ولا ينافيه تعليل الروثة بأنها ركس في حديث ابن مسعود، لما طلب منه رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: "إنها ركس" فقد يعلل الأمر الواحد بعلل كثيرة ولا مانع أيضاً أن تكون رجساً، وتجعل لدواب الجن طعاماً. ومما يدل على عدم النهي عن استقبال القمرين الحديث الآتي:
وللسبعةَ من حديث أبي أَيُّوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنهُ: فلا تَسْتَقْبلوا القِبْلَةَ، ولا تَسْتَدْبِرُوهَا ببَوْلٍ أو غَائِطٍ، ولكنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا".
وهو قوله (وللسبعة من حديث أبي أيوب) واسمه خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من أكابر الصحابة شهد بدراً، ونزل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حال قدومه المدينة عليه. مات غازياً سنة خمسين بالروم، وقيل: بعدها.
والحديث مرفوع أوله: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا أتيتم الغائط" الحديث، وفي آخره من كلام أبي أيوب قال: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة" الحديث تقدم؛ فقوله: (فلا تستَقبلوا القبْلَةَ ولا تستدبروها ببَوْل أو غائط ولكن شرّقوا أو غرّبوا) صريح في جواز استقبال القمرين، واستدبارهما؛ إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالباً.