وعن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنهُ قالَ: "أتى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أنْ اتِيهُ بثلاثةِ أحْجارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، ولمْ أجِدْ ثالثاً، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ. فَأَخَذَهُمَا وأَلْقَى الرَّوثَةَ، وقالَ: "إنها رِكْسٌ" أخرجه البخاريُّ. وزاد أحْمدُ والدارقطنيُّ "ائْتِني بِغَيْرِها".
 

(وعن ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود. قال الذهبي: هو الإمام الرباني أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أم عبد الهذلي، صاحب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وخادمه، وأحد السابقين الأولين، من كبار البدريين، ومن نبلاء الفقهاء والمقربين. أسلم قديماً، وحفظ من فيِّ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سبعين سورة، وقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ أحب أن يقرأ القران غضّاً، كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، وفضائله جمة عديدة. توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وله نحو من ستين سنة (قال: أتى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الغائط فأمرني أن اتيَهُ بثلاثةِ أحجار، فوجدتُ حَجَرينِ ولم أجد ثالثاً، فأتيْتُهُ برَوْثة، فأخذهما وألقَى الرَّوثَة) زاد ابن خزيمة: أنها "كانت روثة حمار" (وقال: إنها ركس) بكسر الراء وسكون الكاف، في القاموس: إنه الرجس (أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: ائتني بغيرها).
أخذ بهذا الحديث الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا تنقص الأحجار عن الثلاث مع مراعاة الإنقاء. وإذا لم يحصل بها زاد حتى ينقى. ويستحب الإيتار، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. ولا يجب الإيتار لحديث أبي داود: "ومن لا فلا حرج" تقدم.
قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا ذكر اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظاً، وعلم الإنقاء معنى دلّ على إيجاب الأمرين، وأما قول الطحاوي: لو كان الثلاث شرطاً لطلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثالثاً. فجوابه: أنه قد طلب صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الثالث، كما في رواية أحمد، والدارقطني المذكورة في كلام المصنف، وقد قال في الفتح: إن رجاله ثقات، على أنه لو لم تثبت الزيادة هذه، فالجواب على الطحاوي: أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاث، وحين ألقى الروثة علم ابن مسعود أنه لم يتم امتثاله الأمر حتى يأتي بثالثة. ثم يحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اكتفى بأحد أطراف الحجرين، فمسح به المسحة الثالثة، إذ المطلوب تثليث المسح ولو بأطراف حجر واحد. وهذه الثلاث لأحد السبيلين.
ويشترط للآخر ثلاثة أيضاً فتكون ستة؛ لحديث ورد بذلك في مسند أحمد، على أنّ في النفس من إثبات ستة أحجار شيئاً، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ما علم أنه طلب ستة أحجار مع تكرّر ذلك منه مع أبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما. والأحاديث بلفظ: "من أتى الغائط"، كحديث عائشة: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزىء عنه" عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، وقال: إسناده حسن صحيح، مع أن الغائط ــــ إذا أطلق ــــ ظاهر في خارج الدبر، وخارج القبل يلازمه. وفي حديث خزيمة بن ثابت: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سئل عن الاستطابة فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" أخرجه أبو داود، والسؤال عام للمخرجيْن معاً، أو أحدهما، والمحل محل البيان. وحديث سلمان بلفظ: "أمرنا أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار" وهو مطلق في المخرجيْن. ومن اشترط الستة؛ فلحديث أخرجه أحمد، ولا أدري ما صحته، فيبحث عنه، ثم تتبعت الأحاديث الواردة في الأمر بثلاثة أحجار، والنهي عن أقل منها فإذا هي كلها في خارج الدبر، فإنها بلفظ النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، وبلفظ الاستجمار: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً"، وبلفظ التمسح: "نهى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن يتمسح بعظم".
إذا عرفت هذا: فالاستنجاء لغة: إزالة النجو، وهو الغائط، والغائط كناية عن العذرة، والعذرة خارج الدبر، كما يفيد ذلك كلام أهل اللغة، ففي القاموس: النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط، واستنجى: اغتسل بالماء، أو تمسح بالحجر، وفيه استطاب: استنجى، واستجمر: استنجى، وفيه التمسح: إمرار اليد لإزالة الشيء السائل، أو المتلطخ اهـ.
فعرفت من هذا كله أن الثلاثة الأحجار لم يرد الأمر بها والنهي عن أقل منها إلا في إزالة خارج الدبر، لا غير، ولم يأت بها دليل في خارج القبل، والأصل عدم التقدير بعدد، بل المطلوب الإزالة لأثر البول من الذكر، فيكفي فيه واحدة، مع أنه قد ورد بيان استعمال الثلاث في الدبر: بأنَّ واحدة للمسربة واثنتين للصفحتين، ما ذاك إلا لاختصاصه بها.