عن جابر: أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "أُعْطِيتُ خَمْساً، لمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلي: نصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، فأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَلِّ"، وذكرَ الحديثَ.
 

باب التيمم
التيمم هو اللغة: القصد.
وفي الشرع: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين، بنية استباحة الصلاة ونحوها.
واختلف العلماء: هل التيمم رخصة أو عزيمة؟
وقيل: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة.
عن جابر: أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "أُعْطِيتُ خَمْساً، لمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلي: نصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، فأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَلِّ"، وذكرَ الحديثَ.
(عن جابر) هو إذا أُطلق جابر بن عبد الله (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال) متحدثاً بنعمة الله، ومبيناً لأحكام شريعته: (أُعطِيتُ) حذف الفاعل للعلم به (خَمْساً) أي: خصالاً، أو فضائل، أو خصائص، والاخر يناسبه قوله: (لمْ يُعطهنَّ أحدٌ قبلي) ومعلوم أنه لا يعطاهن أحد بعده، فتكون خصائص له؛ إذ الخاصة ما توجد في الشيء ولا توجد في غيره. ومفهوم العدد غير مراد؛ لأنه قد ثبت أنه أُعْطِىَ أكثر من الخمس، وقد عدها السيوطي في الخصائص، فبلغت الخصائص زيادة على المائتين، وهذا إجمال فصله (نصرت بالرعب) وهو: الخوف (مَسيرةَ شَهْر) أي: بيني وبين العدو مسافة شهر، وأخرج الطبراني: "نصرت بالرعب على عدوي مسيرة شهرين". وأخرج أيضاً تفسير ذلك عن السائب بن يزيد: بأنه شهر خلفي، وشهر أمامي.
قيل: وإنما جعل مسافة شهر؛ لأنه لم يكن بينه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين أحد من أعدائه أكثر من هذه المسافة، وهي حاصلة له، وإن كان وحده. وفي كونها حاصلة لأمته خلاف (وجُعلت لي الأرضُ مسْجداً) موضع سجود، ولا يختص به موضع دون غيره، وهذه لم تكن لغيره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما صرح به في رواية: "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم"، وفي أخرى: "ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" وهو نص على أنها لم تكن هذه الخاصية لأحد من الأنبياء قبله (وطهوراً) بفتح الطاء: أي: مطهرة تستباح بها الصلاة.
وفيه دليل، أن التراب يرفع الحدث كالماء، لاشتراكهما في الطهورية، وقد يمنع ذلك، ويقال: الذي له من الطهورية استباحة الصلاة به، كالماء. ويدل على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وفي رواية: "وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً" وهو من حديث أبي أمامة عند أحمد، وغيره.
وأما قول من منع من ذلك مستدلاً بقوله في بعض روايات الصحيح: "وجعلت تربتها طهوراً" أخرجه مسلم، فلا دليل فيه على اشتراط التراب؛ لما عرفت في الأصول: من أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص به، ثم هو مفهوم لقب لا يعمل به عند المحققين.
نعم في قوله تعالى في اية المائدة في التيمم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. دليل على أن المراد التراب؛ وذلك أن كلمة من للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن التراب إلا معنى التبعيض، انتهى. والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح من التراب، لا من الحجارة ونحوها (فأيما رجل) هو للعموم في قوة: فكل رجل (أدركته الصلاة فليصل) أي: على كل حال، وإن لم يجد مسجداً، ولا ماء: أي: بالتيمم كما بينته رواية أبي أمامة: "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فلم يجد ماء: وجد الأرض طهوراً، ومسجداً".
وفي لفظ: "فعنده طهوره ومسجده" وفيه: أنه لا يجب على فاقد الماء تطلبه (وذكر الحديث) أي: ذكر جابر بقية الحديث، فالمذكور في الأصل اثنتان.
ولنذكر بقية الخمس، فالثالثة قوله: "وأحلت لي الغنائم"، وفي رواية: المغانم. قال الخطابي: كان من تقدم، أي: من الأنبياء على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، ولكن إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
وقيل: أجيز لي التصرف فيها بالتنفيل، والاصطفاء، والصرف في الغانمين، كما قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
والرابعة قوله: "وأعطيت الشفاعة" قد عد في الشرح الشفاعات اثنتي عشرة شفاعة، واختار أن الكل من حيث هو: مختص به، وإن كان بعض أنواعها يكون لغيره. ويحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أراد بها الشفاعة العظمى، في إراحة الناس من الموقف؛ لأنها الفرد الكامل، ولذلك يظهر شرفها لكل من في الموقف.
والخامسة قوله: "وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" فعموم الرسالة خاص به صلى الله عليه واله وسلم، فأما نوح فإنه بعث إلى قومه خاصة. نعم صار بعد إغراق من كذب به مبعوثاً إلى الأرض؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمناً به، ولكن ليس العموم في أصل البعثة. وقيل: غير ذلك.
وبهذا عرفت أنه صلى الله عليه وآله وسلم وآله مختص بكل واحدة من هذه الخمس، لا أنه مختص بالمجموع. وأما الأفراد فقد شاركه غيره فيها، كما قيل، فإنه قول مردود، وفي الحديث فوائد جليلة مبينة في الكتب المطولة.
وكان ينبغي للمصنف أن يقول بعد قوله: وذكر الحديث. متفق عليه: ثم يعطف عليه قوله: وفي حديث حذيفة إلى اخره، لأنه بقي حديث جابر غير منسوب إلى مخرج، وإن كان قد فهم أنه متفق عليه بعطف قوله.
وفي حديثِ حُذَيْفةَ رضي الله عنهُ، عنْدَ مسلم "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذا لمْ نجدِ المَاءَ".
وفي حديثِ حُذَيْفةَ رضي الله عنهُ، عنْدَ مسلم "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذا لمْ نجدِ المَاءَ".
هذا القيد قراني معتبر في الحديث الأول، كما بيناه.
وعن علي عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا".
وعن علي رضي الله عنه عِنْدَ أحْمد: "وَجُعلَ التُّرابُ لي طَهُورا".
هو وما قبله دليل من قال: إنه لا يجزىء إلا التراب، وقد أجيب بما سلف: من أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يكون مخصصاً، مع أنه من العمل بمفهوم اللقب، ولا يقوله جمهور أئمة الأصول.

الموضوع التالي


وعن عمّار بنُ ياسرٍ رضي الله عنهُما قالَ: بَعَثَني رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجةٍ. فأَجْنَبْتُ، فلم أجدِ الماءَ، فَتَمَرَّغتُ في الصَّعيدِ كما تَتَمرَّغُ الدَّابَةُ، ثمَّ أَتَيْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فذَكَرْتُ لهُ ذلكَ. فقالَ: إنّما يكْفيك أن تَقُولَ بيَدَيْكَ هكذا": ثمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأرضَ ضَرْبَةً واحِدةً، ثم مسَحَ الشِّمَال على اليمينِ، وظَاهرَ كَفّيْهِ وَوَجْهَهُ. متفقٌ عليه، واللفظ لمُسلم.