وعن عمّار بنُ ياسرٍ رضي الله عنهُما قالَ: بَعَثَني رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجةٍ. فأَجْنَبْتُ، فلم أجدِ الماءَ، فَتَمَرَّغتُ في الصَّعيدِ كما تَتَمرَّغُ الدَّابَةُ، ثمَّ أَتَيْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فذَكَرْتُ لهُ ذلكَ. فقالَ: إنّما يكْفيك أن تَقُولَ بيَدَيْكَ هكذا": ثمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأرضَ ضَرْبَةً واحِدةً، ثم مسَحَ الشِّمَال على اليمينِ، وظَاهرَ كَفّيْهِ وَوَجْهَهُ. متفقٌ عليه، واللفظ لمُسلم.
 

وفي رواية للبخاريِّ: وضَرَبَ بكَفّيْهِ الأرضَ، وَنَفَخَ فيهمَا، ثمَّ مَسَحَ بهمَا وَجْهَهُ وكَفّيْهِ.
(عن عمار) بفتح العين المهملة وتشديد الميم اخره راء، هو أبو اليقظان عمار (بن ياسر) بمثناة تحتية وبعد الألف سين مهملة فراء. أسلم عمار قديماً وعذب في مكة على الإسلام وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وسماه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الطيب والمطيب، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدراً، والمشاهد كلها، وقتل بصفين مع علي عليه السلام، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وهو الذي قال له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تقتلك الفئة الباغية".
(قال: بعثني رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في حاجة فأجنبت) أي: صرت جنباً، وقدمنا أنه يقال: أجنب الرجل صار جنباً. ولا يقال: اجتنب، وإن كثر في لسان الفقهاء (فلم أجد الماء فتمرغت) بفتح المثناة الفوقية والميم وتشديد الراء فغين معجمة، وفي لفظ "فتمعكت" ومعناه: تقلبت (في الصعيد، كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فذكرت له ذلك فقال: إنما كانَ يكفيك أن تقول) أي: تفعل، والقول يطلق على الفعل، كقولهم: قال بيده: هكذا (بيديك هكذا) بينه بقوله: (ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفّيْه وَوَجْهه. متفق عليه) بين الشيخين (واللفظ لمسلم).
استعمل عمار القياس، فرأى أنه لما كان التراب نائباً عن الغسل، فلا بد من عمومه للبدن. فأبان له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الكيفية التي تجزئه، وأراه الصفة المشروعة، وأعلمه أنها التي فرضت عليه.
ودلّ على أنه يكفي ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الاية مجملة، بيّنها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالاقتصار على الكفين.
وأفاد أن الترتيب بين الوجه والكفين غير واجب، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب، إلا أنه قد ورد العطف في رواية للبخاري للوجه على الكفين بثم، وفي لفظ لأبي داود: "ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه"، وفي لفظ: للإسماعيلي، ما هو أوضح من هذا: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك؛ ودل على أن التيمم فرض من أجنب ولم يجد الماء.
وقد اختلف في كمية الضربات، وقدر التيمم في اليدين:
فذهب جماعة من السلف، ومن بعدهم إلى أنها تكفي الضربة الواحدة، وذهب إلى أنها لا تكفي الضربة الواحدة جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وقالوا: لا بد من ضربتين؛ للحديث الاتي قريباً، والذاهبون إلى كفاية الضربة: جمهور العلماء، وأهل الحديث؛ عملاً بحديث عمار، فإنه أصح حديث في الباب، وحديث الضربتين يأتي: أنه لا يقوى على معارضته. قالوا: وكل ما عدا حديث عمار فهو ضعيف، أو موقوف، كما يأتي.
وأما قدر ذلك في اليدين:
فقال جماعة من العلماء، وأهل الحديث: إنه يكفي في اليدين الراحتان، وظاهر الكفين؛ لحديث عمار هذا. وقد رويت عن عمار روايات بخلاف هذا، لكن الأصح ما في الصحيحين. وقد كان يفتي به عمار بعد موت النبي ــــ صلى الله عليه وآله وسلم ــــ: وقال اخرون: إنها تجب ضربتان، ومسح اليدين مع المرفقين، لحديث ابن عمر الاتي؛ ويأتي أن الأصح فيه أنه موقوف، فلا يقاوم حديث عمار المرفوع الوارد للتعليم.
ومن ذلك اختلافهم في الترتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمار كما عرفت قاض بأنه لا يجب، وإليه ذهب من قال: تكفي ضربة واحدة قالوا: والعطف في الاية بالواو لا ينافي ذلك.
وذهب من قال: بالضربتين: إلى أنه لا بد من الترتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليمنى على اليسرى.
وفي حديث عمار: دلالة على أن المشروع هو ضرب التراب. وقال بعدم إجزاء غيره: الهادوية، وغيرهم: لحديث عمار هذا، وحديث ابن عمر الاتي.
وقال الشافعي: يجزىء وضع يده في التراب؛ لأن في إحدى روايتي تيممه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من الجدار: "أنه وضع يده"، (وفي رواية) أي من حديث عمار. (للبخاري، وضَرَبَ بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللفظ الأول، إلا أنه خالفه بالترتيب، وزيادة النفخ.
فأما نفخ التراب: فهو مندوب.
وقيل: لا يندب، وسلف الكلام في الترتيب.
وهذا التيمم وارد في كفاية التراب للجنب الفاقد للماء، وقد قاسوا عليه الحائض، والنفساء، وخالف فيه ابن عمر، وابن مسعود. وأما كون التراب يرفع الجنابة، أو لا، فسيأتي في شرح حديث أبي هريرة، وهو حديث مائه وتسعة عشر.