وعنْ أنس رضي الله عنه قال: أُمِرَ بلالٌ: أن يشْفع الأذان شَفْعاً، ويوترَ الإقامةَ، إلا الإقامةَ، يَعْني: إلا قدْ قامتِ الصَّلاة. متّفقٌ عليه، ولم يذكر مُسلمٌ الاستثناء.
 


(وعن أنس رضي الله عنه قال: أُمر) بضم الهمزة مبني لما لم يسم: بنى كذلك للعلم بالفاعل؛ فإنه لا يأمر في الأصول الشرعية إلا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم؛ ويدل له الحديث الاتي قريباً (بلالٌ) نائب الفاعل (أنْ يشْفع) بفتح أوله (الأذان) يأتي بكلماته شفعاً (أي مثنى مثنى أو أربعاً أربعاً) ، فالكل يصدق عليه أنه شفع، وهذا إجمال، بينه حديث عبد الله بن زيد، وأبي محذورة، فشفع التكبير: أن يأتي به أربعاً أربعاً؛ وشفع غيره: أن يأتي به مرتين مرتين، وهذا بالنظر إلى الأكثر، وإلا، فإن كلمة التهليل في اخره مرة واحدة اتفاقاً. (ويوتر الإقامة) يفرد ألفاظها (إلا الإقامة) بين المراد بها بقوله: (يعني: قد قامت الصلاة) ، فإنه يشرع أن يأتي بها مرتين، ولا يوترها (متفق عليه ولم يذكر مسلم الاستثناء) ، أعني قوله: إلا الإقامة.
فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: الأول، للهادوية، فقالوا: تشرع تثنية ألفاظ الإقامة كلها؛ لحديث: "إن بلالاً كان يثني الأذان والإقامة" رواه عبد الرزاق، والدارقطني، والطحاوي، إلا أنه قد ادعى فيه الحاكم الانقطاع، وله طرق فيها ضعف، وبالجملة لا تعارض رواية التربيع في التكبير رواية الإفراد في الإقامة؛ لصحتها. فلا يقال: إن التثنية في ألفاظ الإقامة زيادة عدل، فيجب قبولها، لأنك قد عرفت أنها لم تصح، والثاني: لمالك، فقال: تفرد ألفاظ الإقامة حتى: قد قامت الصلاة. والثالث: للجمهور: أنها تفرد ألفاظها، إلا قد قامت الصلاة، فتكرر؛ عملاً بالأحاديث الثابتة بذلك.
وللنسائي: أمَرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلالاً.
(وللنسائي) أي عن أنس: (أمر) بالبناء للفاعل، وهو (النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بلالاً) ، وإنما أتى به المصنف ليفيد: أن الحديث الأول: متفق عليه، مرفوع، وإن ورد بصيغة البناء للمجهول. قال الخطابي: إسناد تثنية الأذان، وإفراد الإقامة أصحها. أي الروايات، وعليه أكثر علماء الأمصار، وجرى العمل به في الحرمين، والحجاز، والشام، واليمن، وديار مصر، ونواحي الغرب، إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام، ثم عد من قاله من الأئمة.
قلت: وكأنه أراد باليمن من كان فيها شافعي المذهب. وإلا، فقد عرفت مذهب الهادوية وهم سكان غالب اليمن. وما أحسن ما قاله بعض المتأخرين ــــ وقد ذكر الخلاف في ألفاظ الأذان. هل هو مثنى، أو أربع؟ أي التكبير في أوله ــــ وهل فيه ترجيع الشهادتين، أو لا؟ والخلاف في الإقامة ــــ ما لفظه:
هذه المسألة من غرائب الواقعات، يقلّ نظيرها في الشريعة، بل وفي العادات، وذلك أن هذه الألفاظ في الأذان، والإقامة: قليلة محصورة معينة، يصاح بها في كل يوم دليلة خمس مرات، في أعلى مكان، وقد أمر كل سامع أن يقول كما يقول المؤذن، وهم خير القرون في غرة الإسلام، شديدو المحافظة على الفضائل، مع هذا كله، لم يذكر خوض الصحابة، ولا التابعين، واختلافهم فيها؛ ثم جاء الخلاف الشديد في المتأخرين، ثم كل من المتفرقين أدلى بشيء صالح في الجملة، وإن تفاوت، وليس بين الروايات تناف؛ لعدم المانع من أن يكون كل سنة، كما نقوله، وقد قيل: في أمثاله، كألفاظ التشهد، وصورة صلاة الخوف.