[رح12] ــــ وعنْ أُمِّ عطيّة رضي الله عَنْها قالت: دخل عَلَيْنا النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحْن نغسِّل ابنته فقال: "اغْسِلْنها ثلاثاً أوْ خمساً أَوْ أَكثر منْ ذلك إن رأَيْتُنَّ ذلك بماءٍ وسِدْرٍ، واجْعَلْن في الآخرة كافوراً أو شَيْئاً مِنْ كافور" فلَمّا فرغْنا آذَنّاهُ فأَلقى إليْنا حِقْوَه فقالَ: "أَشْعِرْنها إيّاهُ" مُتفقٌ عليه. وفي رواية "ابْدأنَ بميامِنها ومَوَاضِع الوضُوءِ منها" وفي لفظٍ للبخاري "فَضَفَرْنا شَعْرها ثلاثة قرونٍ فَأَلْقيْناها خلفها".
 

(وعن أمّ عطية رضي الله عنها) تقدم اسمها وفيه خلاف وهي أنصارية (قالت: دخل علينا النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ونحن نغسل ابنته) لم تقع في شيء من روايات البخاري مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص كانت وفاتها في أوّل سنة ثمان، ووقع في روايات أنها أم كلثوم. ووقع في البخاري عن ابن سيرين: "لا أدري أي بناته" (فقال: "اغْسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إنْ رأَيتن ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أَوْ شيئاً من كافور") هو شك من الروايات أي اللفظين قال. والأول محمول على الثاني لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شيء منه (فلما فرغنا آذناه) في البخاري "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال لهنّ: فإذا فرغتن آذنني" ووقع في رواية البخاري "فلما فرغن" عوضاً عن فرغنا (فألقى إلينا حقوه) في لفظ البخاري "فأعطانا حِقوه" وهو بفتح المهملة ويجوز كسرها وبعدها قاف ساكنة والمراد هنا الإزار. وأطلق على الإزار مجازاً إذ معناه الحقيقي معقد الإزار فهو من تسمية الحال باسم المحل (فقال: "أَشْعرنْها إيّاه" متفق عليه) أي اجعلنه شعارها أي الثوب الذي يلي جسدها (وفي رواية) أي للشيخين عن أم عطية (ابْدَأن بميامنها ومواضع الوضوء منها") (وفي لفظ للبخاري) أي عن أم عطية (فَضَفَرنا شعرها ثلاثة قُرون فأَلْقيناها خلْفها).
دل الأمر في قوله "اغسلنها ثلاثاً" على أنه يجب ذلك العدد. والظاهر الإجماع على إجزاء الواحدة فالأمر بذلك محمول على الندب.
وأما أصل الغسل فقد علم وجوبه من محل آخر، وقيل: تجب الثلاثة.
وقوله:"أو خمساً" أو للتخيير لا للترتيب هو الظاهر.
وقوله: "أو أكثر" قد فسر في رواية أو سبعاً بدل قوله أو أكثر من ذلك، وبه قال أحمد وكره الزيادة على سبع، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع، إلا أنه وقع عند أبي داود "أو سبعاً أو أكثر من ذلك"، ظاهرها شرعية الزيادة على السبع.
وتقدم الكلام في كيفية غسلة السدر. قالوا: والحكمة فيه أنه يليّن جسد الميت.
وأما غسله الكافور فظاهره أنه يجعل الكافور في الماء ولا يضر الماء تغييره به، والحكمة فيه أنه يطيب رائحة الموضع لأجل من حضر من الملائكة وغيرهم، مع أنه فيه تجفيفاً وتبريداً وقوة نفوذ، وخاصية في تصليب جسد الميت وصرف الهوام عنه، ومنع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك. وهذا هو السر في جعله في الآخرة إذ لو كان في الأولى مثلاً لأذهبه الماء.
وفيه دلالة على البداءة في الغسل بالميامن، والمراد بها ما يلي الجانب الأيمن.
وقوله: "ومواضع الوضوء منها" ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معاً، وقيل المراد: ابدأن بميامنها في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها في الغسلة المتصلة بالوضوء.
والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد سمة المؤمن في ظهور أثر الغرة والتحجيل، وظاهر موضع الوضوء دخول المضمضة والاستنشاق.
وقولها "ضفرنا شعرها" استدل به على ضفر شعر الميت، وقال الحنفية: يرش شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقاً.
قال القرطبي: كأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية لم يكن عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنه قال المصنف: إنه قد روى سعيد بن منصور ذلك بلفظ "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلنها وتراً واجعلن شعرها ضفائر" وفي صحيح ابن حبان "اغسلنها ثلاثة أو خمساً أو سبعاً واجعلن لها ثلاثة قرون".
والقرن هنا المراد به الضفائر، وفي بعض ألفاظ البخاري "ناصيتها وقرنيها" ففي لفظ ثلاثة قرون تغليب، والكل حجة على الحنفية، والضفر يكون بعد نقض شعر الرأس وغسله وهو في البخاري صريحاً.
وفيه دلالة على إلقاء الشعر خلفها، وذهل ابن دقيق العيد عن كون هذه الألفاظ في البخاري فنسب القول به إلى بعض الشافعية وأنه استند في ذلك إلى حديث غريب.