[رح17] ــــ وعَنْهُ رضي اللَّهُ عنهُ قالَ: "كانَ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يَجْمَعُ بيْنَ الرَّجُلين من قتْلى أُحُدٍ في ثَوْبٍ واحد ثمَّ يقُولُ: "أَيُّهمْ أَكْثرُ أَخْذا للقُرآن؟" فيَقُدِّمُهُ في اللّحد، ولم يُغَسّلوا ولم يُصَلَّ عليهم" رواه البخاريُّ.
 

(وعنه) أي عن جابر (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: "أَيُّهمْ أَكْثر أخذاً للقرآن" فيقدّمه في اللحد) سمي لحداً لأنه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه والإلحاد لغة الميل (ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم. رواه البخاري).
دل على أحكام (الأول) أنه يجوز جمع الميتين في ثوب واحد للضرورة وهو أحد الاحتمالين (والثاني) أن المراد يقطعه بينهما ويكفن كل واحد على حياله وإلى هذا ذهب الأكثرون، بل قيل إن الظاهر أنه لم يقل بالاحتمال الأول أحد فإن فيه التقاء بشرتي الميتين ولا يخفى أن قول جابر في تمام الحديث فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. دليل على الاحتمال الأول، وأما الشارح رحمه الله فقال: الظاهر الاحتمال الثاني كما فعل في حمزة رضي الله عنه (قلت): حديث جابر أوضح في عدم تقطيع الثوب بينهما فيكون أحد الجائزين، والتقطيع جائز على الأصل.
(الحكم الثاني) أنه دل على أنه يقدّم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد.
(الحكم الثالث) جمع جماعة في قبر وكأنه للضرورة وبوّب البخاري "باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر" وأورد فيه حديث جابر هذا وإن كان رواية جابر في الرجلين، فقد وقع ذكر الثلاثة في رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. صححه الترمذي. ومثله المرأتان والثلاث:
وأما دفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فقد روى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع "أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه" وكأنه كان يجعل بينهما حائلا من تراب.
(الحكم الرابع) أنه لا يغسل الشهيد وإليه ذهب الجمهور ولأهل المذاهب تفاصيل في ذلك.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وابن سريج أنه يجب غسله. والحديث حجة عليهم، وقد أخرج أحمد من حديث جابر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرحٍ أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة" فبين الحكمة في ذلك.
(الحكم الخامس) عدم الصلاة على الشهيد وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف فقالت طائفة: يصلى عليه عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت وبأنه روي "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلى على قتلى أُحد، وكبر على حمزة سبعين تكبيره"، وبأنه روى البخاري عن عقبة بن عامر "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى على قتلى أحد" وقالت طائفة: لا يصلى عليه عملا برواية جابر هذه.
قال الشافعي: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يصل على قتلى أُحد" وما روي أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صلّى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني، والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة "فلا يتم له الاستدلال" وكأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت انتهى.
ويؤكد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة كما فعل في صلاته علي النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعاً وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرد عنه أنه صلى على قبر فرادى، وحديث عقبة أخرجه البخاري بلفظ "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على قتلى أُحُد بعد ثمان سنين" وزاد ابن حبان "ولم يخرج من بيته حتى قبضه الله تعالى".