ــــ عن ابن عباس رضي الله عنْهُما قال: "قَدْ أُحْصر رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فَحَلَق رأسه وجامع نساءَهُ ونحر هَدْيهُ حتى اعتمر عاماً قابلا" رواه البُخاريُّ.
 


باب الفوات والإحصار
الحصر: المنع، قاله: أكثر أئمة اللغة، والإحصار: هو الذي يكون بالمرض والعجز والخوف ونحوها وإذا كان بالعدوّ قيل له الحصر، وقيل: هما بمعنى واحد.

اختلف العلماء بماذا يكون الإحصار؟
فقال الأكثر: يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدوّ ومرض وغير ذلك حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر، وإليه ذهب طوائف من العلماء منهم الهادوية والحنفية وقالوا: إنه يكون بالمرض والكبر والخوف، وهذه منصوص عليها ويقاس على سائر الأعذار المانعة، ويدل عليه عموم قوله تعالى: {فإن احصرتم} الآية وإن كان سبب نزولها إحصار النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بالعدو فالعام لا يقصر على سببه.
وفيه ثلاثة أقوال أُخر أحدهما: أنه خاص به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأنه لا حصر بعده.
والثاني: أنه خاص بمثل ما اتفق له صلى الله عليه وآله وسلم فلا يلحق به إلا من أحصره عدوّ كافر.
والثالث: أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو كافراً كان أو باغياً. والقول المصدر هو أقوى الأقوال، وليس في غيره من الأقوال إلا آثار وفتاوى للصحابة.
هذا وقد تقدّم حديث البخاري، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم نحر قبل أن يحلق وذلك في قصة الحديبية قالوا: وحديث ابن عباس هذا لا يقتضي الترتيب كما عرفت ولم يقصده ابن عباس إنما قصد وصف ما وقع من غير نظر إلى ترتيب.
وقوله: "ونحر هديه" هو إخبار بأنه كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم هدي نحره هنالك ولا يدل كلامه على إيجابه.
وقد اختلف العلماء في وجوب الهدي على المحصر، فذهب الأكثر إلى وجوبه.
وخالف مالك فقال: لا يجب والحق معه فإنه لم يكن مع كل المحصرين هَدْي وهذا الهدي الذي كان معه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ساقه من المدينة متنفلا به، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: {والهدى معكوفاً أن يبلغ محله} والآية لا تدل على الإيجاب أعني قوله تعالى: {فإن حصرتم فما استيسر من الهدي} وحققناه في منحة الغفار حاشية ضوء النهار.
وقوله: "حتى اعتمر عاماً قابلا" قيل: إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر والمراد من أحصر عن النفل وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه. والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر عاماً قابلا ولا كلام أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اعتمر في عام القضاء، ولكنه عمرة أخرى ليس قضاء عن عمرة الحديبية. أخرج مالك بلاغاً: أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمر أحداً من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء.
وقال الشافعي: فحيث أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قِبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء؛ ثم قال: لأنا علمنا من تواطيء أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال معروفون ثم اعتمر عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلوا عنه. وقال: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة.
وقول ابن عباس "ونحر هديه" اختلف العلماء هل نحره يوم الحديبية في الحل أو في الحرم، وظاهر قوله تعالى: {ذا الهدي معكوفا أن يبلغ محله} أنهم نحروه في الحل؛ وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال:
الأول: للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحل في حل أو حرم.
الثاني: للهادوية والحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم.
الثالث:لابن عباس وجماعة أنه إن كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره، وقيل إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم، والأول أظهر.