وَعَنْ عَائشَةَ رضيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: "خُيِّرَتْ بريرَةُ عَلى زَوْجِهَا حين عَتَقَتْ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ في حديثٍ طويلٍ، ولمُسْلمٍ عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أن زوجها كان عبداً. وفي رواية عنها: كان حراً والأوَّلُ أَثْبَتُ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ الْبُخَاريِّ أَنّهُ كانَ عَبْداً.
 

(وَعَنْ عَائشَةَ رضيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: "خُيِّرَتْ بريرَةُ عَلى زَوْجِهَا حين عَتَقَتْ" مُتّفقٌ عَلَيْهِ في حديثٍ طويلٍ، ولمُسْلمٍ عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أن زوجها كان عبداً. وفي رواية عنها: كان حراً والأوَّلُ أَثْبَتُ) لأنه جزم البخاري أنه كان عبد الله ولذا قال: (وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ الْبُخَاريِّ أَنّهُ كانَ عَبْداً).
ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئاً رأوه فهو أصح.
وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: "إن زوج بريرة كان عبداً أسود يسمى مغيثاً فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمرها أن تعتد".
وفي البخاري عن ابن عباس: "ذاك مغيث عبد بني فلان يعني زوج بريرة".
وفي أخرى عند البخاري: "كان زوج بريرة عبداً أسود يقال له مغيث".
قال الدارقطني: لم تختلف الرواية عن عروة عن عائشة أنه كان عبداً. وكذا قال جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة.
قال النووي: يؤيد قول من قال كان عبداً قول عائشة: كان عبداً فأخبرت وهي صاحبة القصة بأنه كان عبداً. فصح رجحان كونه عبداً قوّة وكثرة وحفظاً.
والحديث دليل على ثبوت الخيار للمعتقة بعد عتقها في زوجها إذا كان عبداً وهو إجماع.
واختلف إذا كان حرّاً فقيل لايثبت لها الخيار وهو قول الجمهور قالوا: لأن العلة في ثبوت الخيار. إذا كان عبداً هو عدم المكافأة من العبد للحرة في كثير من الأحكام فإذا عتقت ثبت لها الخيار من البقاء في عصمته. أو المفارقة لأنها في وقت العقد عليها لم تكن من أهل الاختيار.
وذهبت الهادوية والشعبي وآخرون إلى أنه يثبت لها الخيار. وإن كان حراً. احتجوا بأنه قد ورد في رواية: أن زوج بريرة كان حراً. وردّه الأولون بأنها رواية مرجوحة لا يعمل بها.
قالوا: ولأنها عند تزويجها لم يكن لها اختيار. فإن سيدها يزوجها وإن كرهت فإذا أعتقت تجدد لها حال لم يكن قبل ذلك.
قال ابن القيم: "في تخييرها ثلاثة مآخذ وذكر مأخذين وضعفهما ثم ذكر الثالث وهو أرجحها وتحقيقه أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين الأمرين البقاء تحت الزوج أو الفسخ منه وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة: "ملكت نفسك فاختاري".
قلت: وهو من تعليق الحكم وهو الاختيار على ملكها لنفسها فهو إشارة إلى علة التخيير وهذا يقتضي ثبوت الخيار إن كانت تحت حرّ.
وهل يقع الفسخ بلفظ الاختيار؟ قيل: نعم كما يدل له قوله في الحديث: "خيرت".
وقيل: لا بد من لفظ الفسخ.
ثم إذا اختارت نفسها لم يكن للزوج الرجعة عليها وإنما يراجعها بعقد جديد إن رضيت به ولا يزال لها الخيار بعد علمها ما لم يطأها لما أخرجه أحمد عنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إذا عتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن تشأ فارقته وإن وطئها فلا خيار لها وأخرجه الدارقطني بلفظ: "إن قاربك فلا خيار لك" فدل أن الوطء مانع من الخيار وإليه ذهب الحنابلة.
واعلم أن هذا الحديث جليل قد ذكره العلماء في مواضع من كتبهم في الزكاة وفي العتق وفي البيع وفي النكاح وذكره البخاري في البيع وأطال المصنف في عدة ما استخرج منه من الفوائد حتى بلغت مائة واثنتين وعشرين فائدة فنذكر ما له تعلق بالباب الذي نحن بصدده.
(منها) جواز بيع أحد الزوجين الرقيقين دون الآخر، وأن بيع الأمة المزوجة لا يكون طلاقاً وأن عتقها لا يكون طلاقاً ولا فسخاً.
وأن للرقيق أن يسعى في فكاك رقبته من الرق، وأن الكفارة معتبرة في الحرية.
قلت: قد أشار في الحديث إلى سبب تخييرها وهو ملكها نفسها كما عرفت فلا يتم هذا وأن اعتبارها يسقط برضا المرأة التي لا ولي لها. ومما ذكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكك المدينة يتحدر دمعه لفرط محبته لها قالوا: فيؤخذ منه أن الحب يذهب الحياء وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه فيعذر أهل المحبة في الله إذا حصل لهم الوجد عند سماع ما يفهمون منه الإشارة إلى أحوالهم حيث يغتفر منهم ما لا يحصل عن اختيار كالرقص ونحوه.
قلت: لا يخفى أن زوج بريرة بكى من فراق محبه فمحب الله يبكي شوقاً إلى لقائه وخوفاً من سخطه كما كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يبكي عند سماع القرآن وكذلك أصحابه ومن تبعهم بإحسان. وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه فأعجب لهذا المأخذ الذي أخذوه من الحديث وذكره المصنف في الفتح ثم سرد فيه غير ما ذكرناه وأبلغ فوائده إلى العدد الذي وصفناه وفي بعضها خفاء وتكلف لا يليق بمثل كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.