وعن أبي هُريرة رضي الله عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ليسلِّم الصغير على الكبير والمارُّ على القاعدِ والقليلُ على الكثير" مُتّفقٌ عليه، وفي رواية لمسلم: "والرَّاكب على الماشي".
 

(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ليسلم الصغير على الكبير والمارُّ على القاعد والقليل على الكثير". متفق عليه، وفي رواية لمسلم) من رواية أبي هريرة ("والرَّاكب على الماشي").
بل هو في البخاري، وقال المصنف: إنه لم يقع تسليم الصغير على الكبير في صحيح مسلم فيشكل جعل الحديث من المتفق عليه.
وظاهر الأمر الوجوب، وقال المازري: إنه للندب، قال: فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأ الآخر كان المأمور تاركاً للمستحب والآخر فاعلاً للسنّة.
قلت: والأصل في الأمر الوجوب وكأنه صرفه عنه الاتفاق على عدم وجوب البداءة بالسلام.
والحديث فيه شرعية ابتداء السلام من الصغير على الكبير. قال ابن بطال عن المهلب: وإنما شرع للصغير أن يبتدىء الكبير لأجل حق الكبير، ولأنه أمر بتوقيره والتواضع له، ولو تعارض الصغر المعنوي والحسي كأن يكون الأصغر أعلم مثلاً قال المصنف: لم أرَ فيه نقلاً، والذي يظهر اعتبار السن لأن الظاهر تقديم الحقيقة على المجاز.
وفيه شرعية ابتداء المارّ بالسلام للقاعد، قال المازري: لأنه قد يتوقع القاعد منه الشر ولا سيما إذ كان راكباً فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهاناً فصار مزية فأمر المارّ بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارّين من كثرتهم فسقطت البداءة عنه للمشقة عليه.
وفيه شرعية ابتداء القليل بالسلام على الكثير. وذلك لفضيلة الجماعة، لو ابتدأوا لخيف على الواحد الزهو فاحتيط له، فلو مر جمع كثير أو مر الكبير على الصغير قال المصنف: لم أرَ فيه نصاً، واعتبر النووي المرور فقال: الوارد يبدأ سواء كان صغيراً أو كبيراً.
وذكر الماوردي: أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض، لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله وخرج به عن العرف.
وفيه شرعية ابتداء الراكب على الماشي، وذلك لأن للراكب مزية على الماشي فعوض الماشي بأن يبدأ الراكب بالسلام احتياطاً على الراكب من الزهو لو حاز الفضيلتين، وأما إذا تلاقى راكبان أو ماشيان فقد تكلم فيها المازري فقال: يبدأ الأدنى منهما على الأعلى قدراً في الدين إجلالاً لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان ومركوب أحدهما أعلى في الجنس من مركوب الآخر كالجمل والفرس فيبدأ راكب الفرس، أو يكتفي بالنظر إلى أعلاهما قدراً في الدين فيبدأ الذي هو أدنى الذي هو فوقه، والثاني أظهر كما لا ينظر إلى من يكون أعلاهما قدراً من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطاناً يخشى منه.
وإذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، كما ثبت في حديث المتهاجرين، وقد أخرج البخاري في الأدب بسند صحيح من حديث جابر "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" وأخرج الطبراني بسند صحيح عن الأغرّ المزني قال: قال لي أبو بكر: لا يسبقك أحد بالسلام، وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "إن أولى الناس بالله من بدأ السلام" وقال: حسن، والطبراني في حديث "قلنا: يا رسول الله إنا نلتقي فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله تعالى".
وعَنْ عليَ رضي الله عنهُ قالَ: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "يجزىءُ عن الجماعة إذا مَرُّوا أَن يُسلمَ أَحدهمْ، ويجزىءُ عَن الجماعة أَن يَرُدَّ أحدهم" رواهُ أَحمدُ والبيهقيُّ.
فيه يجزىء تسليم الواحد عن الجماعة ابتداء ورداً، قال النووي: يستثنى من عموم ابتداء السلام من كان يأكل أو يشرب أو يجامع أو كان في الخلاء أو في الحمام أو نائماً أو ناعساً أو مصلياً أو مؤذناً ما دام متلبساً بشيء مما ذكر إلا أن السلام على من كان في الحمام إنما كره إذا لم يكن عليه إزار وإلا فلا كراهة.
وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره للأمر بالإنصات، فلو سلم لم يجب الرد عليه عند من قال الإنصات واجب، ويجب عند من قال إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد.
وأما المشتغل بقراءة القرآن فقال الواحدي: الأولى ترك السلام عليه، فإن سلم كفاه الردّ بالإشارة وإن ردّ لفظاً استأنف الاستعاذة وقرأ؛ قال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه ويجب عليه الرد.
ويندب السلام على من دخل بيتاً ليس فيه أحد لقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم}. وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنه: "يستحب إذا لم يكن في البيت أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه:
فإن ظن المارّ أنه سلم على القاعد لا يرد عليه فإنه يترك ظنه ويسلم فلعل ظنه يخطىء، فإنه إن لم يرد عليه سلامه ردت عليه الملائكة، كما ورد ذلك، وأما من قال:لا يسلم على من ظن أنه لا يرد عليه لأنه يكون سبباً لتأثيم الآخر فهو كلام غير صحيح، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ذكر معناه النووي.
وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يسلم عليه لأن توريط المسلم في المعصية أشدّ من مصلحة السلام عليه، وامتثال حديث الأمر بالإفشاء يحصل مع غير هذا، فإن قيل: هل يحسن أن يقول: رُدّ السلام فإنه واجب؟ قيل: نعم فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب، فإن لم يجب حسن أن يحلله من حق الرد.
وعنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تبدءُوا اليهودَ والنصارى بالسّلام، وإذا لقيتموهمْ في طريق فاضطروهمْ إلى أضيقه" أَخرجهُ مسلمٌ.
ذهب الأكثر إلى أنه لا يجوز ابتداء اليهود والنصارى بالسلام. وهو الذي دل عليه الحديث إذ أصل النهي التحريم، وحكي عن بعض الشافعية أنه يجوز الابتداء لهم بالسلام. ولكن يقتصر على قول: السلام عليكم، وروي ذلك عن [اث]ابن عباس[/اث] وغيره، وحكى القاضي عياض عن جماعة جواز ذلك لكن للضرورة والحاجة. وبه قال علقمة والأوزاعي.
ومن قال: لا يجوز يقول: إن سلم على ذمي ظنه مسلماً ثم بان له أنه يهودي فينبغي أن يقول له: رد عليّ سلامي. وروي عن ابن عمر أنه فعل ذلك، والغرض منه أن يوحشه ويظهر له أنه ليس بينهما ألفة. وعن مالك: أنه لا يستحب أن يسترده، واختاره ابن العربي.
فإن ابتدأ الذمي مسلماً بالسلام ففي الصحيحين عن أنس مرفوعاً "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود إنما يقول أحدهم: السام عليكم فقل: وعليك" وإلى هذه الرواية بإثبات الواو ذهب طائفة من العلماء، واختار بعضهم حذف الواو لئلا يقتضي التشريك وقد قدمنا ذلك، وما ثبت به النص أولى بالإتباع.
وقال الخطابي: عامة المحدثين يروون هذا الحرف وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو، وقال الخطابي: وهذا هو الصواب.
قلت: وحيث ثبتت الرواية بالواو وغيرها فالوجهان جائزان. وفي قوله: "فقولوا: وعليك، وقولوا: وعليكم" ما يدل على إيجاب الجواب عليهم في السلام، وإليه ذهب عامة العلماء، ويروى عن آخرين أنه لا يرد عليهم. والحديث يدفع ما قالوه.
وفي قوله: "فاضطروهم إلى أضيقه" دليل على وجوب ردهم عن وسط الطرقات إلى أضيقها، وتقدم فيه الكلام.
وعنهُ رضي الله عنهُ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا عطس أَحَدُكم فليقل: الحمد لله، وليْقلْ لهُ أَخُوهُ: يرحمك اللّهُ، فإذا قالَ لهُ يرحمك اللّهُ فليقلُ: يهديكم الله ويصلح بالَكُم" أَخرجه البُخاريُّ.
(وعنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه (عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا عَطس أَحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل لهُ أَخوهُ: يرحمك الله فإذا قال له يرحمك الله فليْقل: يهديكم الله ويصلح بالكم" أخرجه البخاري).
تقدم فيه الكلام، ولو أتى به المصنف بعد أول حديث في الباب لكان الصواب.