وعن المُغيرة بنِ شُعْبةَ رضي اللّهُ عنهُ أنَّ رسول اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قالَ: "إنَّ اللّهَ حَرَّمَ عَلَيْكم عُقُوق الأمهات، ووَأدَ البنات، وَمَنْعاً وَهَات، وكرهَ لكُمْ قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤال، وإضاعةَ المالِ" مُتّفقٌ عَليه.
 

الأمهات: جمع أمهة لغة في الأم، ولا تطلق إلا على من يعقل بخلاف أم فإنها نعم، وإنما خصت الأم هنا إظهاراً لعظم حقها وإلا فالأب محرم عقوقه.
وضابط العقوق المحرّم كما نقل خلاصته عن البلقيني وهو: أن يحصل من الولد للأبوين أو أحدهما إيذاء ليس بالهين عرفاً، فيخرج من هذا ما إذا حصل من الأبوين أمر أو نهي فخالفهما بما لا يعدّ في العرف مخالفته عقوقاً، فلا يكون ذلك عقوقاً، وكذلك لو كان مثلاً على أبوين دين للولد أو حق شرعي فرافعه إلى الحاكم فلا يكون ذلك عقوقاً، كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في احتياجه لماله، فلم يعدّ النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم شكايته عقوقاً: قلت: في هذا تأمل فإن قوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "أنت ومالك لأبيك" دليل على نهيه عن منع أبيه عن ماله وعن شكايته.
ثم قال صاحب الضابط: فعلى هذا العقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه كان محرماً من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين كبيرة، أو مخالفة الأمر أو النهي فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه في غير الجهاد الواجب عليه، أو مخالفتهما في سفر يشق عليهما، وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس لطلب علم نافع أو كسب، أو ترك تعظيم الوالدين فإنه لو قدم عليه أحدهما ولم يقم إليه، أو قطب في وجهه فإن هذا وإن لم يكن في حق الغير معصية فهو عقوق في حق الأبوين.
قوله: "ووأد البنات" بسكون الهمزة وهو دفن البنات حية وهو محرم، وخص البنات لأنه الواقع من العرب فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية كراهة لهن. يقال: أوّل من فعله قيس بن عاصم التيمي، وكان من العرب من يقتل أولاده مطلقاً خشية الفاقة والنفقة.
وقوله: "منعاً وهات" المنع مصدر من منع يمنع والمراد منع ما أمر الله أن لا يمنع، وهات فعل أمر مجزوم والمراد النهي عن طلب ما لا يستحق طلبه.
وقوله: "وكره لكم قيل وقال" يروى بغير تنوين حكاية للفظ الفعل. وروي منوناً وهي رواية في البخاري "قيلاً وقالاً"، على النقل من الفعلية إلى الاسمية، والأول أكثر، والمراد به نقل الكلام الذي يسمعه إلى غيره، فيقول: قيل كذا وكذا بغير تعيين القائل، وقال فلان كذا وكذا. وإنما نهي عنه لأنه من الاشتغال بما لا يعني المتكلم لكونه قد يتضمن الغيبة والنميمة والكذب ولا سيما مع الإكثار من ذلك قلما يخلو عنه.
وقال المحب الطبري: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنهما مصدران للقول تقول: قلت قولاً وقيلاً. وفي الحديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام، ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها لتخبر عنها، فتقول: قال فلان كذا وقيل له كذا. والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه وإما لما يكرهه المحكي عنه. ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين كقوله: قال فلان كذا وقال فلان كذا ومحل كراهة ذلك في أن يكثر منه بحيث لا يأمن من الزلل، وهو في حق من ينقل بغير تثبت في نقله لما يسمعه ولا يحتاط له، ويؤيد هذا الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم. قلت: ويحتمل إرادة كل من الثلاثة.
وقوله "وكثرة السؤال" هو السؤال للمال، أو عن المشكلات من المسائل، أو مجموع الأمرين وهو أولى؛ وتقدّم في الزكاة تحريم مسألة المال وقد نهى عن الأغلوطات. أخرجه أبو داود وهي: المسائل التي يغلط بها العلماء ليزلوا فينتج بذلك شر وفتنة. وإنما نهي عنها لكونها غير نافعة في الدين ولا يكاد أن يكون إلا فيما لا ينفع.
وقد ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر وقوعها جداً، لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الذي لا يخلو صاحبه عن الخطأ. وقيل: كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وكثرة سؤال إنسان معين عن تفاصيل حاله وكان مما يكرهه المسؤول.
وقوله: "وإضاعة المال" المتبادر من الإضاعة: ما لم يكن لغرض ديني ولا دنيوي. وقيل: هو الإسراف في الإنفاق. وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، ورجح المصنف أنه ما أنفق في غير وجوهه المأذون فيها شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد وفي التبذير تفويت تلك المصالح إما في حق صاحب المال أو في حق غيره.
قال: والحاصل أن في كثرة الإنفاق ثلاثة وجوه؛ الأول: الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعاً ولا شك في تحريمه.
الثاني: الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعاً ولا شك في كونه مطلوباً ما لم يفوت حقاً آخر أهم من ذلك المنفق فيه.
والثالث: الإنفاق في المباحات وهو منقسم إلى قسمين؛ أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف. والثاني: فيما لا يليق به عرفاً فإن كان لدفع مفسدة إما حاضرة أو متوقعة فذلك ليس بإسراف، وإن لم يكن كذلك فالجمهور على أنه إسراف.

قال ابن دقيق العيد: ظاهر القرآن أنه إسراف وصرح بذلك القاضي حسين فقال في قسم الصدقات: هو حرام وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي في الكلام على الغارم، وقال الباجي من المالكية: إنه يحرم استيعاب جميع المال بالصدقة، قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادراً لحادث كضيف أو عيد أو وليمة.
والإتفاق على كراهة الإنفاق في البناء الزائد على قدر الحاجة ولا سيما إن انضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرف، وكذلك احتمال الغبن الفاحش في المبايعات بلا سبب. وقال السبكي في الحلبيات: وأما إنفاق المال في الملاذّ المباح فهو موضع اختلاف وظاهر قوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} ،أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف. ومن بذل مالاً كثيراً في عرض يسير فإنه يعده العقلاء مضيعاً انتهى. وقد تقدم الكلام في الزكاة على التصديق بجميع المال بما فيه كفاية.