عن النُّعْمان بن بشير رضي اللّهُ عَنْهما قال: سمعتُ رسُولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: ــ وأَهْوى النُّعمان بإصبعيه إلى أُذنيه ــ "إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنَّ الحرَامَ بيِّنٌ وبينَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النّاس، فَمن اتّقى الشُّبُهات فقد استبرأَ لدينهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرَام؛ كالرَّاعي يرْعَى حوْلَ الحمى يوشِكُ أنْ يقعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى إلا وإنَّ حمى الله محارمهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةٌ إذا صَلَحتْ صلحَ الجسدُ كُلُّهُ وإذا فسدتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهي القلبُ" مُتّفقٌ عليه.
 


الزهد: هو قلة الرغبة في الشيء، وإن شئت قلت: قلة الرغبة عنه. وفي اصطلاح أهل الحقيقة: بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة، وقيل: أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك. وقيل: بذل ما تملك ولا تؤثر ما تدرك. وقيل: ترك الأسف على معدوم، ونفي الفرح بمعلوم. قاله المناوي في تعريفاته.
وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذرّ مرفوعاً "الزهادة في الدنيا ليست بتحر الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك" انتهى فهذا التفسير النبوي يقدّم على كل تفسير.
والورع: تجنب الشبهات خوف الوقوع في محرّم، وقيل: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك؛ وقيل: الأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأشق؛ وقيل: النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس. وقيل: تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
عن النُّعْمان بن بشير رضي اللّهُ عَنْهما قال: سمعتُ رسُولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: ــ وأَهْوى النُّعمان بإصبعيه إلى أُذنيه ــ "إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنَّ الحرَامَ بيِّنٌ وبينَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النّاس، فَمن اتّقى الشُّبُهات فقد استبرأَ لدينهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرَام؛ كالرَّاعي يرْعَى حوْلَ الحمى يوشِكُ أنْ يقعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى إلا وإنَّ حمى الله محارمهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةٌ إذا صَلَحتْ صلحَ الجسدُ كُلُّهُ وإذا فسدتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهي القلبُ" مُتّفقٌ عليه.
(عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: ــــ وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه ــــ "إن الحلال بيِّن (وإنّ) الحرامَ بيِّن وبينهما مشتبهاتٌ) ويروى "مشبِّهات" بضم الميم وتشديد الموحدة، ومشبهات بضمها أيضاً وتخفيف الموحدة (لا يعْلمهُنَّ كثيرٌ من النّاس فَمِن اتّقى الشّبُهات فقدِ استبرأَ) بالهمزة من البراءة أي حصل له البراءة من الذم الشرعي وصان عرضه من ذم الناس (لدينه وعرضه ومنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي يوشك أن يقع فيه، وإنما حذفه لدلالة ما بعده عليه، إذ لو كان الوقوع في الشبهات وقوعاً في الحرام لكانت من قسم الحرام البيِّن، وقد جعلها قسماً برأسه، وكما يدل له التشبيه بقوله: (كالرَّاعي يرْعى حول الحمى يوشك أَنْ يقعَ فيه، أَلا وإنَّ لكُلِّ ملكٍ حمى، أَلا وإن حِمَى الله محارمُهُ، أَلا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلحتْ صلح الجسدُ كُلُّهُ وإذا فسدت فسَدَ الجسَدُ كُلُّهُ؛ ألا وهي القلبُ" متفق عليه).
أجمع الأئمة على عظم شأن هذا الحديث وأنه من الأحاديث التي تدور عليها قواعد الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام، فإن دورانه عليه وعلى حديث "الأعمال بالنيات" وعلى حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود: إنه يدور على أربعة. هذه ورابعها حديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل: حديث "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".
قوله: "الحلال بيِّن" أي قد بينه الله ورسوله إما بالإعلام بأنه حلال نحو {أحل لكم صيد البحر} الآية وقوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} أو سكت عنه تعالى ولم يحرمه فالأصل حله، أو بما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه حلال امتن الله ورسوله به، فإنه لازم حله وقوله: "والحرام بيِّن" أي بينه الله لنا في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم نحو {حرمت عليكم الميتة} أو بالنهي عنه نحو {لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
والإخبار عن الحلال بأنه بين إعلام بحل الانتفاع به في وجوه النفع، كما أن الإخبار بأن الحرام بين إعلام باجتنابه.
وقوله: "وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" المراد بها التي لم يعرف حلها ولا حرمتها فصارت مترددة بين الحل والحرمة عند الكثير من الناس، وهم الجهال، فلا يعرفها إلا العلماء بنص، فما لم يوجد فيه شيء من ذلك اجتهد فيه العلماء وألحقوه بأيهما بقياس أو استصحاب أو نحو ذلك، فإن خفي دليله فالورع تركه ويدخل تحت "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ ــــ أي أخذ بالبراءة ــــ لدينه وعرضه"، فإذا لم يظهر فيه للعالم دليل تحريمه ولا حله فإنه يدخل في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فمن لا يثبت للعقل حكماً، يقول: لا حكم فيها بشيء لأن الأحكام شرعية، والفرض أنه لا يعرف فيها حكم شرعي ولا حكم للعقل؛ والقائلون بأن العقل حاكم؛ لهم في ذلك ثلاثة أقوال التحريم والإباحة والوقف.
وإنما اختلف في المشتبهات هل هي مما اشتبه تحريمه أو ما اشتبه بالحرام الذي قد صح تحريمه؟ رجح المحققون الأخير، ومثلوا ذلك بما ورد في حديث عقبة بن الحارث الصحابي الذي أخبرته أَمَةٌ سوداء بأنها أرضعته وأرضعت زوجته فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "كيف وقد قيل؟" فقد صح تحريم الأخت من الرضاعة شرعاً قطعاً وقد التبست عليه زوجته بهذا الحرام المعلوم، ومثله التمرة التي وجدها صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أنها من الزكاة أو من الصدقة لأكلتها" فقد صح تحريم الصدقة عليه ثم التبست هذه التمرة بالحرام المعلوم.
وأما ما التبس هل حرمه الله علينا أم لا؟ فقد وردت أحاديث دالة على أنه حلال؛ منها حديث[اث] سعد بن أبي وقاص[/اث]: "إن من أعظم الناس إثماً في المسلمين من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته" فإنه يفيد أنه كان قبل سؤاله حلالاً، ولما اشتبه عليه سأل عنه فحرم من أجل مسألته، ومنها حديث "ما سكت الله عنه فهو مما عفى عنه" له طرق كثيرة ويدل له قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات} فكل ما كان طيباً ولا يثبت تحريمه فهو حلال، وإن اشتبه علينا تحريمه، والمراد بالطيب هو ما أحله الله على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أو سكت عنه، والخبيث ما حرمه وإن عدته النفوس طيباً، كالخمر، فإنه أحد الأطيبين في لسان العرب في الجاهلية. وقال ابن عبد البرّ: إن الحلال الكسب الطيب وهو الحلال المحض، وإن المتشابه عندنا في حيز الحلال بدلائل ذكرناها في غير هذا الموضع، ذكره صاحب تنضيد التمهيد في الترغيب في الصدقة نقله عن السيد محمد بن إبراهيم وقد حققنا أنه من قسم الحلال البين في رسالتنا المسماة القول المبين.
وقال الخطابي: ما شككت فيه فالأولى اجتنابه، وهو على ثلاثة أحوال: واجب، ومستحب، ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزم المحرم، والمندوب اجتناب معاملة من غلب على ماله الحرام، والمكروه اجتناب الرخصة المشروعة ا هــــ.
قال في الشرح: وقد ينازع في المندوب فإنه إذا كان في الأغلب الحرام فأولى أن يكون واجب الاجتناب وهو الذي بني عليه الهادوية في معاملة الظالم فيما لم يظنّ تحريمه، لأن الذي غلب عليه الحرام يظنّ فيه التحريم ا هــــ وقد أوضحنا هذا في حواشي ضوء النهار.
وقسم الغزالي الورع أقساماً: ورع الصديقين وهو ترك ما لم تكن فيه بينة واضحة على حله، وورع المتقين وهو ما لا شبهة فيه ولكن يخاف أن يجر إلى الحرام، وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع وإلا فهو ورع الموسوسين قلت: ورع الموسوسين قد بوّب له البخاري فقال: "باب من لم يرَ الوسواس في الشبهات" كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون انفلت من إنسان، وكمن ترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حرام أم حلال ولا علامة تدل على ذلك التحريم، وكمن ترك تناول شيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه ويكون دليل إباحته قوياً وتأويله ممتنع أو مستبعد، والكلام في الحديث متسع وفي هذا كفاية.
وقوله: "إن لكل ملك حمى" إخبار عما كانت عليه ملوك العرب وغيرهم، فإنه كان لكل واحد حمى يحميه من الناس ويمنعهم عن دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة ومن أراد نجاة نفسه من العقوبة لم يقربه خوفاً من الوقوع فيه، وذكر هذا كضرب المثل للمخاطبين، ثم أعلمهم أن حماه تعالى: الذي حرّمه على العباد.
وقوله: "ومن وقع في الشبهات إلخ" أي من وقع فيها فقد حام حول حمى الحرام فيقرب ويسرع أن يقع فيه. وفيه إرشاد إلى البعد عن ذرائع الحرام وإن كانت محرّمة، فإنه يخاف من الوقوع فيها الوقوع فيه، فمن احتاط لنفسه لا يقرب الشبهات لئلا يدخل في المعاصي.
ثم أخبر صلى الله عليه وآله وسلم منبهاً مؤكداً بأن في الجسد مضغة وهي القطعة من اللحم، سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها وأنها مع صغرها عليها مدار صلاح الجسد وفساده، فإن صلحت صلح وإن فسدت فسد.
وفي كلام الغزالي أنه لا يراد بالقلب المضغة إذ هي موجودة للبهائم مدركة بحاسة البصر بل المراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. وهي المدركة العارفة من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمطالب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني. وذكر أن جميع الحواس والأعضاء أجناد مسخرة للقلب، وكذلك الحواس الباطنة في حكم الخدم والأعوان وهو المتصرف فيها والمردّد لها، وقد خلقت مجبولة على طاعة القلب لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحرّكت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء، وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه ــــ من وجه ــــ تسخير الملائكة لله تعالى، فإنهم جبلوا على طاعته لا يستطيعون له خلافاً، وإنما يفترقان في شيء وهو أن الملائكة عالمة بطاعتها للرب والأجفان تطيع القلب بالانفتاح والانطباق على سبيل التسخير، وإنما افتقر القلب إلى الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره إلى الله تعالى وقطع المنازل إلى لقائه فلأجله خلقت القلوب قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وإنما مركبه البدن وزادهالعلم وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح، ثم أطال في هذا المعنى بما يحتمل مجلدة لطيفة، وإنما أشرنا إلى كلامه ليعلم مقدار الكلام النبوي وأنه بحر قطارته لا تنزف، وأما كونه محل العقل أو محله الدماغ فليست من مسائل علم الآثار حتى يشتغل بذكرها وذكر الخلاف فيها.