وعن المقدام بن مَعْدِ يكربَ رضي اللّهُ عنْهُ قالَ: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "ما ملأ ابن آدمَ وعاءً شراً منْ بَطْنٍ" أَخرجَهُ الترمذيُّ وحسّنهُ.
 

وأخرجه ابن حبان في صحيحه وتمامه "بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة" وفي لفظ ابن ماجه "فإن غلبت ابن آدم نفسه فثلثاً لطعامه. وثلثاً لشرابه. وثلثاً لنفسه".
والحديث دليل على ذم التوسع في المأكول والشبع والامتلاء، والإخبار عنه بأنه شر لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية، فإن فضل الطعام مجلبة للسقام ومثبطة عن القيام بالأحكام. وهذا الإرشاد إلى جعل الأكل ثلث ما يدخل المعدة من أفضل ما أرشد إليه سيد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يخف على المعدة ويستمد من البدن الغذاء وتنتفع به القوى ولا يتولد عنه شيء من الأدواء.
وقد ورد من الكلام النبوي شيء كثير في ذم الشبع، فقد أخرج البزار بإسنادين أحدهما رجاله ثقات مرفوعاً بلفظ "أكثرهم شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة" قاله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جحيفة لمّا تجشأ فقال: "ما ملأت بطني منذ ثلاثين سنة" وأخرج الطبراني بإسناد حسن "أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غداً في الآخرة" زاد البيهقي: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وأخرج الطبراني بسند جيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً عظيم البطن فقال بأصبعه: "لو كان في غير هذا لكان خيراً لك" وأخرج البيهقي واللفظ له وأخرجه الشيخان مختصراً "ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرأوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}.
وأخرج بن أبي الدنيا "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أصابه جوع يوماً فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: "ألا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا ربَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا ربَّ مهين لنفسه وهو لها مكرم" وصح حديث "من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت" وأخرج البيهقي بإسناد فيه ابن لهيعة عن عائشة قالت: رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: "يا عائشة أما تحبين أن لا يكون لك شغل إلا جوفك؟ الأكل في اليوم مرتين من الإسراف والله لا يحب المسرفين" وصح "كلوا واشربوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة" وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط "سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام فأولئك شرار أُمتي".
وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة، وفي الخلو عن الطعام فوائد، وفي الامتلاء مفاسد، ففي الجوع صفاء القلب وإيقاد القريحة ونفاذ البصيرة، فإنّ الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في المعدة والدماغ كشبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار.
ومن فوائده كسر شهوة المعاصي كلها، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى ومادة القوى الشهوات، والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة، وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة كلها في أن تملكه نفسه. قال ذو النون: ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية.
وقالت[اث] عائشة[/اث] رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشبع إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا. ويقال: الجوع خزانة من خزائن الله، وأول ما يندفع بالجوع شهوة الفرج وشهوة الكلام فإن الجائع لا تتحرّك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص من آفات اللسان، ولا تتحرّك عليه شهوة الفرج فيتخلص من الوقوع في الحرام.
ومن فوائده قلة النوم فإن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام طويلاً وفي كثرة النوم خسران الدارين وفوات كل منفعة دينية ودنيوية.
وعدّ الغزالي في الإحياء عشر فوائد لتقليل الطعام وعدّ عشر مفاسد للتوسيع منه، فلا ينبغي للعبد أن يعوّد نفسه ذلك فإنها تميل به إلى الشره ويصعب تداركها، وليرضها من أول الأمر على السداد، فإن ذلك أهون له من أن يجرئها على الفساد، وهذا أمر لا يحتمل الإطالة إذ هو من الأمور التجريبية التي قد جربها كل إنسان. والتجربة من أقسام البرهان.