عَنْ أَبي هُريرة رضي اللّهُ عنهُ قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إيّاكُم والحسد فإن الحسَد يأكُلُ الحسَنات كما تأكُلُ النارُ الحطبَ" أَخرجهُ أَبو داود، ولابن ماجَهْ من حديث أَنَس نحوُهُ.
 

إياكم ضمير منصوب على التحذير والمحذر منه الحسد. وفي الحسد أحاديث وآثار كثيرة، ويقال: كان أول ذنب عصي الله به الحسد، فإنه أمر إبليس بالسجود لآدم فحسده فامتنع عنه فعصى الله فطرده، وتولد من طرده كل بلاء وفتنة عليه وعلى العباد، والحسد لا يكون إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان، إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها وهذه الحالة تسمى حسداً. الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها له ولكن تريد لنفسك مثلها فهذا يسمى غبطة، فالأول حرام على كل حال إلا نعمة على فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء العباد، فهذه لا يضرك كراهتك لها ولا محبتك زوالها فإنك لم تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة للفساد.
ووجه تحريم الحسد مع ما علم من الأحاديث أنه تسخط لقدر الله تعالى وحكمته في تفضيل بعض عباده على بعض. ولذا قيل:
[شع] ألا قل لمن كان لي حاسداً
أتدري على مَنْ أَسأت الأدب[/شع]
[شع] أَسأت على الله في فعله
لأنك لم ترض لي ما وهب[/شع]
ثم الحاسد إن وقع له الخاطر بالحسد فدفعه وجاهد نفسه في دفعه فلا إثم عليه، بل لعله مأجور في مدافعة نفسه، فإن سعى في زوال نعمة المحسود فهو باغٍ، وإن لم يسمع ولم يظهره لمانع العجز، فإن كان بحيث لو أمكنه لفعل فهو مأزور وإلا فلا؛ أي لا وزر عليه لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها.
وفي الإحياء: فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة فهو حسود حسداً مذموماً، وإن كان نزعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفى عنه ما يجده في نفسه من ارتياحه إلى زوال النعمة من محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه.
وهذا التفصيل يشير إليه ما أخرجه عبد الرزاق مرفوعاً: "ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظنّ والحسد". قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ" وأخرج أبو نعيم "كل ابن آدم حسود ولا يضر حاسداً حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد" وفي معناه أحاديث لا تخلو عن مقال.
وفي الزواجر لابن حجر الهيثمي: إن الحسد مراتب: وهي إما محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل إلى الحاسد وهذا غاية الحسد، أو مع انتقالها إليه أو انتقال مثلها إليه، وإلا أحب زوالها لئلا يتميز عليه أو لا مع محبة زوالها، وهذا الأخير هو المعفوّ عنه من الحسد إن كان في الدنيا والمطلوب إن كان في الدين انتهى، وهذا القسم الأخير يسمى غيرة، فإن كان في الدين فهو المطلوب وعليه حمل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار"، والمراد أنه يغار ممن اتصف بهاتين الصفتين فيقتدي به محبة للسرور في هذا المسلك ولعل تسميته حسداً مجازاً.
والحديث دليل على تحريم الحسد، وأنه من الكبائر. ونسبة الأكل إليه مجاز من باب الاستعارة. وقوله: "كما تأكل النار الحطب" تحقيق لذهاب الحسنات بالحسد كما يذهب الحطب بالنار ويتلاشى جرمه.
واعلم أن دواء الحسد الذي يزيله عن القلب معرفة الحاسد أنه لا يضر بحسده المحسود في الدين ولا في الدنيا وأنه يعود وبال حسده عليه في الدارين إذ لا تزول نعمة بحسد قط، وإلا لم تبق لله نعمة على أحد حتى نعمة الإيمان لأن الكفار يحبون زواله عن المؤمنين؛ بل المحسود يتمتع بحسنات الحاسد لأنه مظلوم من جهة، سيما إذا أطلق لسانه بالانتقاص والغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الإيذاء، فيلقى الله مفلساً من الحسنات محروماً من نعمة الآخرة، كما حرم من نعمة سلامة الصدر وسكون القلب والاطمئنان في الدنيا، فإذا تأمل العاقل هذا عرف أنه جرّ لنفسه بالحسد كل غم ونكد في الدنيا والآخرة.