وعنْ جابر رضي اللّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "اتّقُوا الظُّلم فإن الظلم ظُلُمات يوم القيامة واتّقُوا الشُّحَّ فإنه أَهلكَ مَنْ كانَ قبلَكم" أَخرجهُ مُسلمٌ.
 

في الشح وفي التفرقة بينه وبين البخل أقوال، فقيل في تفسير الشح: إنه أشدّ من البخل وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: البخل في بعض الأمور والشح عام، وقيل: البخل بالمال خاصة والشح بالمال والمعروف وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده.
وقوله: "فإنه أهلك من كان قبلكم" يحتمل أن يريد الهلاك الدنيوي المفسر بما بعده في تمام الحديث وهو قوله: "حملهم على أن يسفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وهذا هلاك دنيوي، والحامل لهم هو شحهم على حفظ المال وجمعه وازدياده وصيانته عن ذهابه في النفقات، فضموا إليه مال الغير صيانة له، ولا يدرك مال الغير إلا بالحرب والغصيبة المفضية إلى القتل واستحلال المحارم، ويحتمل أن يراد به الهلاك الأخروي، فإنه يتفرع عما اقترفوه من ارتكاب هذه المظالم، والظاهر حمله على الأمرين.
واعلم أن الأحاديث في ذمّ الشح والبخل كثيرة، والآيات القرآنية كقوله تعالى: {والذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه} {ولا تحسبن الذين يبخلون بما اتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم} {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} في الحديث "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه" أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه زيادة، وفي الدعاء النبوي: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ــــ إلى قوله ــــ والبخل" أخرجه الشيخان، وقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع" أخرجه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً، والآثار فيه كثيرة.
فإن قلت: وما حقيقة البخل المذموم؟ وما من أحد إلا وهو يرى نفسه أنه غير بخيل ويرى غيره بخيلاً، وربما صدر فعل من إنسان فاختلف فيه الناس فيقول جماعة: إنه بخيل ويقول آخرون: ليس بخيلاً فماذا حدّ البخل الذي يوجب الهلاك وما حدّ البذل يستحق العبد به صفة السخاوة وثوابها؟.
قلت: السخاء: هو أن يؤدي ما أوجب عليه، والواجب واجبان: واجب الشرع: وهو ما فرضه الله تعالى من الزكاة والنفقات لمن يجب عليه إنفاقه وغير ذلك، وواجب المروءة والعادة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً منهما فهو يخيل، لكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل، فمن أعطى زكاة ماله مثلاً ونفقة عياله بطيبة نفسه ولا يتيمم الخبيث من ماله في حق الله فهو سخيّ. والسخاء في المروءة أن يترك المضايقة والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح، ويختلف استقباحه باختلاف الأحوال والأشخاص، وتفصيله يطول فمن أراد استيفاء ذلك راجع الإحياء للغزالي رحمه الله.
واعلم أن البخل داء له دواء وما أنزل الله من داء إلا وله دواء، وداء البخل أمران: الأول: حب الشهوات التي لا يتوصل إليها إلا بالمال وطول الأمل؛ والثاني: حب ذات المال والشغف به وببقائه لديه، فإن الدنانير مثلاً رسول تنال به الحاجات والشهوات فهو محبوب لذلك ثم صار محبوباً لنفسه، لأن الموصل إلى اللذات لذيذ، فقد ينسى الحاجات والشهوات وتصير الدنانير عنده هي المحبوبة، وهذا غاية الضلال؛ فإنه لا فرق بين الحجر وبين الذهب إلا من حيث إنه تقضى به الحاجات، فهذا سبب حب المال، ويتفرع منه الشح.
وعلاجه بضده، فعلاج الشهوات القناعة باليسير وبالصبر، وعلاج طول الأمل الإكثار من ذكر الموت وذكر موت الأقران والنظر في ذكر طول تعيهم في جمع المال ثم ضياعه بعدهم وعدم نفعه لهم.
وقد يشح بالمال شفقة على من بعده من الأولاد، وعلاجه أن يعلم أن الله هو الذي خلقهم فهو يرزقهم وينظر في نفسه فإنه ربما لم يخلف أبوه له فلساً، ثم ينظر ما أعدّ الله عزّ وجلّ لمن ترك الشحّ وبذل من ماله في مرضاة الله، وينظر في الآيات القرآنية الحاثة على الجود المانعة عن البخل، ثم ينظر في عواقب البخل في الدنيا، فإنه لا بدّ لجامع المال من آفات تخرجه على رغم أنفه، فالسخاء خير كله ما لم يخرج إلى حدّ الإسراف المنهي عنه. وقد أدّب الله عباده أحسن الآداب فقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} فخيار الأمرو أوسطها وخلاصته أنه إذا وجد العبد المال أنفقه في وجوه المعروف بالتي هي أحسن ويكون بما عند الله أوثق منه بما هو لديه، وإن لم يكن لديه مال لزم القناعة والتكفف وعدم الطمع.