ـــ وعن محمود بنِ لَبِيد رَضِيَ الله عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:" إنَّ أخوَفَ ما أخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّركَ الأصْغِرُ: الرِّيَاءُ". أخرجه أحمد بإسناد حسن.
 

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه هو محمود بن لبيد الأنصاري الأشهلي ولد على عهد رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وحدث عنه أحاديث، قال البخاري: له صحبة، وقال أبو حاتم: لا تعرف له صحبة، وذكره مسلم في التابعين، قال ابن عبد البر: الصواب قول البخاري وهو أحد العلماء مات سنة ست وتسعين، قال, قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر كأنه قيل: ما هو؟ فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: الرياء. أخرجه أحمد بإسناد حسن الرياء مصدر راءي فاعل ومصدره يأتي على بناء مفاعلة وفعال وهو مهموز العين لأنه من الرؤية ويجوز تخفيفها بقلبها ياء وحقيقته لغة أن يرى غيره خلاف ما هو عليه وشرهعاً أن يفعل الطاعة ويترك المعصية مع ملاحظة غير الله أو يخبر بها أو يجب أن يطلع عليها لمقصد دنيوي من مال أو نحوه.
وقد ذمه الله في كتابه وجعله من صفات المنافقين في قوله: {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]، وقال: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} ، وقال: {فويل للمصلين} ـ إلى قوله ـ [اي[ {الذين هم يراءون} [الماعون: 5]، وورد فيه من الأحاديث الكثيرة الطيبة الدالة على عظمة عقاب المرائي فإنه في الحقيقة عابد لغير الله، وفي الحديث القدسي:"يقول الله تعالى: من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا عنه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك".
واعلم أن الرياء يكون بالبدن وذلك بإظهار النحول والاصفرار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد والحزن على أمر الدين وخوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبتشعث الشعر ودرن الثوب يوهم أن همه بالدين ألهاه عن ذلك وأنواع هذا واسعة وهو معنى أنه من أهل الدين ويكون في القول بالوعظ في المواقف ويذكر كحايات الصالحين ليدل على عنايته بأخبار السلف وتبحره في العلم ويتأسف على مقارفة الناس للمعاصي والتأوه من ذلك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحضرة الناس والرياء بالقول لا تنحصر أبوابه، وقد تكون المراءاة بالأصحاب والأتباع والتلاميذ فيقال: فلان متبوع قدوة والرياء باب واسع إذا عرفت ذلك فبعض أبواب الرياء أعظم م بعض لاختلافه باختلاف أركانه، وهي ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء فقصد الرياء لا يخلو من أن يكون مجرداً عن قصد الثواب أو مصحوباً بإرادته، والمصحوب بإرادة الثواب لا يخلو عن أن تكون إرادة الثواب أرجح أو أضعف أو مساوية فكانت أربع صور، الأولى أن لا يكون قصد الثواب بل فعل الصلاة مثلاً ليراه غيره، وإذا انفرد لا يفعلها وأخرج الصدقة لئلا يقال: إنه بخيل، وهذا أغلظ أنواع الرياء وأخبثها وهو عبادة للعباد، الثانية قصد الثواب لكن قصداً ضعيفاً بحيث إنه لا يحمله على الفعل إلا مراءاة العباد ولكنه قصد الثواب فهذا كالذي قبله، الثالثة تساوي القصدان بحيث لم يبعثه على الفعل إلا مجموعهما ولو خلى عن كل واحد منهما لم يفعله فهذا تساوي صلاح قصده وفساده فلعله يخرج رأساً برأس لا له ولا عليه، الرابعة أن يكون إطلاع الناس مرجحاً أو مقوياً لنشاطه ولو لم يكن لما ترك العبادة. قال الغزالي: والذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص ويعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب، وحديث "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" محمول على ما إذا تساوى القصدان أو أن قصد الرياء أرجح، وأما المراءى به وهو الطاعات فيقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها وهو ثلاث درجات: الرياء بالإيمان وهو إظهار كلمة الشهادة وباطنه مكذب فهو مخلد في النار في الدرك الأسفل منها وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} وقريب منهم الباطنية الذين يظهرون الموافقة في الاعتقاد ويبطنون خلافه، ومنهم الرافضة أهل التقية الذين يظهرون لكل فريق أنهم منهم تقية. والرياء بالعبادات كما قدّمناه، وهذا إذا كان الرياء في أصل المقصد وأما إذا عرض الرياء بعد الفراغ من فعل العبادة لم يؤثر فيه إلا إذا ظهر العمل للغير وتحدث به. وقد أخرج الديلمي مرفوعاً "إن الرجل ليعمل عملاً سراً فيكتبه الله عنده سراً فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به فيمحى من السر ويكتب علانية فإن عاد تكلم الثانية محى من السر والعلانية وكتب رياء".
وأما إذا قارن باعث الرياء باعث العبادة ثم ندم في أثناء العبادة فأوجب البعض من العلماء الاستئناف لعدم انعقادها. وقال بعضهم: يلغو جميع ما فعله إلا التحريم، وقال بعض: يصح لأن النظر إلى الخواتم كما لو ابتدأ بالإخلاص وصحبه الرياء من بعده، قال الغزالي: والقولان الآخران خارجان عن قياس الفقه.
وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول جواب جندب بن زهير لما قال للنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إني أعمل العمل لله وإذا اطلع عليه سرني فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا شريك لله في عبادته" وفي رواية "إن الله لا يقبل ما شورك فيه" رواه ابن عباس، وروي عن مجاهد أنه جاء رجل إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني فيسرني وأعجب به. فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له شيئاً حتى نزلت الآية يعني قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}.
ففي الحديث دلالة على أن السرور بالاطلاع على العمل رياء، ولكنه يعارضه ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حديث غريب قال: قلت: يا رسول الله بينا أنا في بيتي في صلاتي إذ دخل عليّ رجل فأعجبني الحال التي رآني عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لك أجران"؛ وفي الكشاف من حديث جندب أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "لك أجران أجر السر وأجر العلانية" وقد يرجح هذا الظاهر قوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول} فدل على أن محبة الثناء من رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لا تنافي الإخلاص ولا تعدّ من الرياء.
ويتأول الحديث الأول بأن المراد بقوله: "إذا اطلع عليه سرني" لمحبته للثناء عليه، فيكون الرياء في محبته للثناء على العمل وإن لم يخرج العمل عن كونه خالصاً، وحديث أبي هريرة ليس فيه تعرّض لمحبة الثناء من المطلع عليه. وإنما هو مجرد محبة لما يصدر عنه وعلم به غيره.
ويحتمل أن يراد بقوله فيعجبه أي يعجبه شهادة الناس له بالعمل الصالح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض" وقال الغزالي: أما مجرّد السرور باطلاع الناس إذا لم يبلغ أمره بحيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد العبادة.