وعَنْ عبد الرحمن بن سمرةَ رضي الله عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "وإذا حَلَفتَ على يمين فرَأَيْتَ غيرها خيْراً منها فكَفّر عَنْ يمينك وائتِ الذي هُو خيرٌ" مُتّفقٌ عليه، وفي لَفْظٍ للبخاري "فائت الذي هُوَ خَيْرٌ وكَفّر عنْ يمينك" وفي رواية لأبي داود "فكفِّر عنْ يمينك ثمَّ ائتِ الذي هو خيرٌ" وإسنادها صحيحٌ.
 

(وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه) ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح افتتح سجستان ثم سكن البصرة ومات بها سنة خمسين أو بعدها (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإذا حلفت على يمين) أي على محلوف منه سماه يميناً مجازاً (ورأيت غيرها خيراً منها فكفِّرْ عن يمينك وأتِ الذي هو خيرٌ" متفق عليه، وفي لفظ للبخاري "فائت الذي هو خيرٌ وكفر عن يمينك" وفي رواية لأبي داود) عن عبد الرحمن أيضاً ("فكفِّرْ عنْ يمينك ثم ائتِ الذي هو خيرُ" وإسنادهما) بالتثنية أي لفظ البخاري ورواية أبي داود والأولى إفراد الضمير ليعود إلى رواية أبي داود فقط لما علم من عرفهم أن ما في الصحيحين صحيح لا يحتاج إلى أن يقال إسناده (صحيح).
الحديث دليل على أن من حلف على كل شيء وكان تركه خيراً من التمادي على اليمين وجب عليه التكفير، وإتيان ما هو خير، كما يفيده الأمر، ولكنه صرح الجماهير بأنه إنما يستحب له ذلك لا أنه يجب.
وظاهره وجوب تقديم الكفارة، ولكنه ادعى الإجماع على عدم وجوب تقديمها، وعلى جواز تأخيرها إلى ما بعد الحنث، وعلى أنه لا يصح تقديمها قبل اليمين. ودلت رواية "ثم ائت الذي هو خير" على أنه يقدّم الكفارة قبل الحنث لاقتضاء "ثم" الترتيب ورواية الواو تحمل على رواية "ثم" حملا للمطلق على المقيد، فإن تم الإجماع على جواز تأخيرها وإلا فالحديث دال على وجوب تقديمها.
وممن ذهب إلى جواز تقديمها على الحنث مالك والشافعي وغيرهما وأربعة عشر من الصحابة وجماعة من التابعين، وهو قول جماهير العلماء. لكن قالوا: يستحب تأخيرها عن الحنث، وظاهره أن هذا جار في جميع أنواع الكفارة.
وذهب الشافعي إلى عدم إجزاء تقديم التكفير بالصوم وقال: لا يجوز قبل الحنث لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان وأما التكفير بغير الصوم فجائز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة.
وذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه لا يجوز تقديم التكفير على الحنث على كل حال، قالت الهادوية: لأن سبب وجود الكفارة هو مجموع الحنث واليمين، فلا يصح التقديم قبل تمام سبب الوجوب، وعند الحنفية السبب الحنث. ولا يخفى أن الحديث دال على خلاف ما عللوا به وذهبوا إليه فالقول الأوّل أقرب إلى العمل به.
وعن ابن عمر رضي اللّهُ عَنْهُما أَنَّ رسولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ حَلَفَ على يمين فقال: إن شاء الله فلا حِنْثَ عَلَيْه" رَواهُ أَحْمدُ والأربعةُ وصحّحهُ ابنُ حِبّانَ.
قال الترمذي: لا نعلم أحداً رفعه غير أيوب السختياني، قال ابن علية: كان أيوب يرفعه تارة وتارة لا يرفعه، قال البيهقي: لا يصح رفعه إلا عن أيوب مع أنه شك فيه.
قلت: كأنه يريد أنه رفعه تارة ووقفه أخرى، ولا يخفى أن أيوب ثقة حافظ لا يضر تفرّده برفعه، وكونه وقفه تارة لا يقدح فيه، لأن رفعه زيادة عدل مقبولة، وقد رفعه عبد الله العمري، وموسى بن عقبة، وكثر بن فرقد، وأيوب بن موسى، وحسان بن عطية، كلهم عن نافع مرفوعاً فقوى رفعه. على أنه وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه.
وإلى ما أفاده الحديث ذهب الجماهير؛ وقال ابن العربي: "اجمع المسلمون بأن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً قال: ولو جاز منفصلاً كما قال بعض السلف لم يحنث أحد في يمين ولم يحتج إلى الكفارة. واختلفوا في زمن الإتصال. فقال الجمهور: هو أن يقول إن شاء الله متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضره التنفس. قلت: وهذا هو الذي تدل له الفاء في قوله: "فقال".
وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وقال عطاء: قدر حلبة ناقة، وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر، وقال[اث] ابن عباس[/اث]: له الاستثناء أبدا متى يذكر.
قلت: وهذه تقادير خالية عن الدليل، وقد تأوّل بعضهم هذه الأقاويل بأن مرادهم أنه يستحب له أن يقول إن شاء الله تبركاً، أو يجب على ما ذهب إليه بعضهم لقوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} فيكون الاستثناء رافعاً للإثم الحاصل بتركه أو لتحصيل ثواب الندب على القول باستحبابه. ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث.
واختلفوا هل الاستثناء مانع للحنث في الحلف بالله وغيره من الطلاق والعتاق وغيره من الظهار والنذر والإقرار؟ فقال مالك: لا ينفع إلا في الحلف بالله دون غيره، واستقواه ابن العربي واستدل بأنه تعالى قال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} فلا يدخل في ذلك اليمين الشرعية وهي الحلف بالله.
وذهب أحمد إلى أنه لا يدخل العتق لما أخرجه البيهقي من حديث معاذ مرفوعاً "إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق، وإذا قال لعبده أنت حرّ إن شاء الله فإنه حر" إلا أنه قال البيهقي: تفرّد به حميد بن مالك وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده.
وذهبت الهادوية إلى أن الاستثناء بقوله إن شاء الله معتبر فيه أن يكون المحلوف عليه فيما شاءه الله أو لا يشاؤه، فإن كان ما يشاؤه الله بأن كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً في المجلس أو حال التكلم ــــ لأن مشيئة الله حاصلة في الحال ــــ فلا تبطل اليمين بل تنعقد به وإن كان لا يشاؤه بأن يكون محظوراً أو مكروهاً فلا تنعقد اليمين، فجعلوا حكم الاستثناء بالمشيئة حكم التقييد بالشرط فيقع المعلق عند وقوع المعلق به وينتفي بانتفائه، وكذا قوله إلا أن يشاء الله حكمه حكم إن شاء الله. ولا يخفى أن الحديث لا تطابقه هذه الأقوال.
وتأتي قصة الذي سرق رداء صفوان ورفعه إليه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ثم أراد أن لا يقطعه فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "هلاّ قبل أن تأتيني به" ويأتي من أخرجه.
وفي قوله "فقال: إن شاء الله" دليل على أنه لا يكفي في الاستثناء النية، وهو قول كافة العلماء. وحكي عن بعض المالكية صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ، وإلى هذا أشار البخاري وبوّب عليه باب النية في الأيمان ــــ يعني بفتح الهمزة ــــ ومذهب الهادوية صحة الاستثناء بالنية وإن لم يلفظ بالعموم إلا من عدد منصوص فلا بدّ من الاستثناء باللفظ.
وعَنْهُ رضي اللّهُ عنهُ قال: "كانتْ يمين النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا ومقلّب القُلوب" رواهُ البُخاريُّ.
المراد أن هذا اللفظ الذي كان يواظب عليه في القسم، وقد ذكر البخاري الألفاظ التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بها: "لا؛ ومُقلِّب الْقُلُوبِ" وفي رواية "لا ومصرف القلوب ــــ والذي نفسي بيده ــــ والذي نفس محمد بيده ــــ والله ــــ ورب الكعبة" ولابن أبي شيبة كان إذا اجتهد اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده" ولابن ماجه: كانت يمين رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم التي يحلف بها: "أشهد عند الله والذي نفسي بيده".
والمراد بتقليب القلوب تقليب أعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب. قال الراغب: تقليب الله القلوب والبصائر صرفها عن رأي إلى رأي. والتقلب: التصرف قال الله تعالى: {أو يأخذهم في تقلبهم} وقال ابن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة، وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل به ملكاً يأمر بالخير وشيطاناً يأمر بالشر، والعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء مسيطر على الكل؛ والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى، والمحفوظ من حفظه الله ا هــــ.
قلت: وقوله: "والكلام" بناء منه على إثبات الكلام النفسي وأن محله القلب، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا" رد ونفي للسابق من الكلام.
والحديث دليل على جواز الإقسام بصفة من صفات الله وإن لم تكن من صفات الذات، وإلى هذا ذهبت الهادوية حيث قالوا: الحلف بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا يكون على ضدها، ويريدون بصفة الذات كالعلم والقدرة ولكنهم قالوا: لا بدّ من إضافتها إلى الله تعالى كعلم الله، ويريدون بصفة الفعل كالعهد والأمانة إذا أضيفت إلى الله، إلا أنه قد ورد حديث بالنهي عن الحلف بالأمانة أخرجه أبو داود من حيث بريدة بلفظ "من حلف بالأمانة فليس منا" وذلك لأن الأمانة ليست من صفاته تعالى بل من فروضه عل العباد.
وقولهم: لا يكون على ضدها احتراز عن الغضب والرضا والمشيئة، فلا تنعقد بها اليمين.
وذهب ابن حزم ــــ وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية ــــ إلى أن جميع الأسماء الواردة في القرآن أو السنّة الصحيحة وكذا الصفات صريح في اليمين وتجب به الكفارة.
وفصلت الشافعية في المشهور عنهم والحنابلة فقالوا: إن كان اللفظ يختص بالله تعالى كالرحمن ورب العالمين وخالق الخلق فهو صريح ينعقد به اليمين سواء قصد الله تعالى أو أطلق، وإن كان يطلق عليه تعالى وعلى غيره لكن يقيد كالرب والخالق فتنعقد به اليمين إلا أن يقصد به غير الله تعالى.
وإن كان يطلق عليه وعلى غيره على السواء نحو الحي والموجود، فإن نوى غير الله تعالى أو أطلق فليس بيمين وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح.