ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من ادعى
 
الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء
قال الله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد
الذي أدعى لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه السلام دليله وبين كثرة جهله وقلة عقله وألجمه الحجه وأوضح له طريق المحجة
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار وهذا الملك هو ملك بابل واسمه النمرود ابن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قاله مجاهد وقال غيره نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح قال مجاهد وغيره وكان أحد ملوك الدنيا فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة مؤمنان وكافران فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان والكافران النمرود وبختنصر وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة وكان قد طغا وبغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية فلما قال الخليل ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت
قال قتادة والسدي ومحمد بن إسحق يعني أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر وهذا ليس بمعارضة للخليل بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة ليس بمنع ولا بمعارضة بل هو تشغيب محض وهو انقطاع في الحقيقة فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيونات وموتها على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر وخلق هذه الحيونات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها ولهذا قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت فقول هذا الملك الجاهل أنا أحي وأميت إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهداة فقد كابر وعاند وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحق فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة قال فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فات بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء ودان له كل شيء فإن كنت كما تزعم فافعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنصر منها فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ولم يبق له كلام يجيب الخليل
به بل وسكت ولهذا قال فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ولم يكن اجتمع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة وقد روى عبدالرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يفدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال أشغل أهلي إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام فقامت إمرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا فعملت منه طعاما فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال أنى لكم هذا قالت من الذي جئت به فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل قال زيد بن أسلم وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى عليه ثم الثالثة فأبى عليه وقال اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخرها أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها