فصل (كيفية قتله في المدينة وفيها كثير من الصحابة ).
 
إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم فجوابه من وجوه أحدها أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله فإن اولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع ولا أن هؤلاء يجترؤن عليه إلىما هذا حده حتى وقع ما وقع الله والله أعلم الثاني أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا فتمكن اولئك مما أرادوا ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية الثالث أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في ايام الحج ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة بل لما اقترب مجيئهم انتهزوا فرصتهم قبحهم الله وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم الرابع أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف يضعه على حبوته إذا احتبى والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه وربما
لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته فما فجىء الناس إلا وقد ظفر اولئك بالدار من خارجها وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وعمرو بن الحمق وغيرهم
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الأزدي وكان قد شهد الدار ورواه محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن يزديد الرجي عنه وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان فذكر ما ملخصه أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الأخنس في ناس وطاف وفد مصر بداره فاستشار الناس فقال عبد الله ابن الزبير يا أمير المؤمنين إني أشير بأحدى ثلاث خصال إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم فأنا على الحق وهم على الباطل فقال عثمان أما ما ذكرت من الأحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فأنهم يرونا ضلالا الان وحال الأحرام وبعد الإحرام ومن الذهاب إلى الشام فأني استحيي أن أخرج من بينهم خائفا فيراني أهل الشام وتسمع الأعداء من الكفار ذلك وأما القتال فأني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم قال ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي صم يا عثمان فأنك تفطر عندنا وإني أشهدكم إني قد أصبحت صائما وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الاخر أن يخرج من الدار سالما مسلوما منه فقلنا يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه جماعة ومنعة ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه وعنده أمرأتاه بنت الفرافصة وابنه شيبة فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال دعها يا ابن أخي فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا فاستحيي فخرج فقال للقوم قد أشعرته لكم وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال علي أي ملة أنت يا نعثل فقال عثمان لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين فقال كذبت وضربه بالحرف على صدغه الأيسر فقتله فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها وكانت جسيمة ضليعة فألقت نفسها عليه وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده ودخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتا فقال والله لأقطعن أنفه فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من
خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها فقالت يا رباح لغلام عثمان أسود يا غلام ادفع عني هذا الرجل فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم فقتل المغيرة بن الأخنس وجرح مروان قال فلما أمسينا قلنا إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به فاحتملناه إلى بقيع الفرقد في جوف الليل وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم وكدنا أن نتفرق عنه فنادى مناديهم أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم وكان أبو حبيش يقول هم ملائكة الله فدفناه ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان فأخبرناهم بقتله ودفنه
قال أبو عمر بن عبد البر دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب وكان قد اشتراه وزاده في البقيع ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان هو أمير البررة وقتيل الفجرة مخذول من خذله منصور من نصره
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله بعد حكايته هذا الكلام الذين قتلوه أو ألبوا عليه قتلوا إلى عفو الله ورحمته والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم وكان الملك بعده في نائبه ومعاوية وبنيه ثم في وزيره مروان وثمانية من ذريته استطالوا حياته وملوه مع فضله وسوابقه فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعا وثمانين سنة فالحكم لله العلي الكبير وهذا لفظه بحروفه