وقعة عين وردة
 
فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم فى الآخرة وزهدهم في الدنيا وحثهم عل الجهاد وقال إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجية فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل فإن قتل فعبد الله بن وال فان قتل فرفاعة بن شداد ثم بعث بين يديه المسيب بن نجية فى خمسمائة فارس فأغاروا على جيش ابن ذى الكلاع وهم عارون فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين
واستاقوا نعما وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير فى إثنى عشر ألفا فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون فى يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى وحصين بن نمير قائم فى إثنى عشر ألفا وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول فى طاعة مروان بن الحكم ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين فلما أصبحوا أصبح ابن ذى الكلاع وقد وصل إلى الشاميين فى ثمانية عشرة ألف فارس وقد أنبه وشتمه ابن زياد فاقتتل الناس فى هذا اليوم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز فى عشرة آلاف وذلك فى يوم الجمعة فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى ثم استدار أهل الشام بأهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى يا عباد الله من أراد الرواح إلى الجنة والتوبة من ذنبه والوفاء بعهده فليأت إلى فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم وحملوا حتى صاروا فى وسط القوم وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا فى الدماء وقتل سليمان بن صرد أمير العراقيين رماه رجل يقال له يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع ثم وثب ثم وقع وهو يقول فزت ورب الكعبة فأخذ الراية المسيب بن نجية فقاتل بها قتالا شديدا وهو يقول
قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب
والذى ذكره المدائنى أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه وذلك إنما فعله مكرا منه وكبارا ليفسد عليه ما هو بصدده فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة ايام فنقم الناس عليه ذلك وقالوا دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه ثم خلعته بلا سبب ولا عذر ثم دعوتنا إلى نفسك فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس وذلك الذى أراد ابن زياد وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك فنزل عنده بدمشق وجعل يركب إليه كل يوم ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالأردن واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بنى كلب ولما رأى مروان بن الحكم ما أنتظم من البيعة لابن الزبير وما استوثق له من الملك وعزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه امانا لبنى أمية فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلا من العراق فصده عن ذلك وهجن رأيه واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص وحصين بن نمير وابن زياد وأهل اليمن وخلق فقالوا لمروان أنت كبير قريش وخالد بن يزيد غلام وعبد الله بن الزبير كهل فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض فلا تناوئه بهذا الغلام وارم بنحرك فى نحره ونحن نبايعك ابسط يدك فبسط يده فبايعوه بالجابية فى يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين قاله الواقدى فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس فالتقيا بمرج راهط فغله مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها على ما سيأتي تفصيله فى أول سنة خمس وستين فإن الواقدى وغيره قالوا إنما كانت هذه الوقعة فى المحرم من أول سنة خمس وستين وفى رواية محمد بن سعد وعن الواقدى وغيره قالوا إنما كانت فى أواخر هذه السنة وقال الليث بن سعد والواقدى والمدائنى وأبو سليمان بن يزيد وأبو عبيدة وغير واحد كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذى الحجة سنة أربع وستين والله سبحانه وتعالى أعلم
أنى غداة الروع والتغالب أشجع من ذى لبدة مواثب
قصاع أقران مخوف الجانب
ثم قاتل قتالا شديدا فقضى ابن نجية نحبه ولحق فى ذلك الموقف صحبه رحمهم الله فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالا شديدا أيضا وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل العراق حملة منكرة وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ثم اتحدا فحمل ابن أخى ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله ثم احتمل عمه فأخذ الراية عبد الله بن وال فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول الرواح إلى الجنة وذلك بعد العصر وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم قتل وكان من الفقهاء المفتين قتله أدهم بن محرز الباهلى أمير حرب الشاميين ساعتئذ فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام ورجع الشاميون إلى رحالهم وانشمر رفاعة بمن بقى معه راجعا إلى بلاده فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا
لما لقوا منهم من القتل والجراح فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن قاصدين إلى نصرتهم فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم ونعوا إليه اصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم وتباكوا على إخوانهم وانصرف أهل المدائن إليها ورجع راجعة أهل الكوفة إليها وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير وإذا المختار بن أبى عبيد كما هو فى السجن لم يخرج منه فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم ويغبطهم بما نالوا من الشهادة وجزيل الثواب ويقول مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ورضى عنهم والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه فى أرواح النبيين والشهداء والصالحين وبعد فأنا الأمير المأمون قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله فأعدوا واستعدوا وأبشروا وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والطلب بدماء أهل البيت وذكر كلاما كثيرا فى هذا المعنى
وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذى كان يأتى إليه من الشياطين فانه قد كان يأتى إليه شيطان فيوحى إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله وقد كان سليمان بن صرد الخزرجى صحابيا جليلا نبيلا عابدا زاهدا روى عن النبى ص أحاديث فى الصحيحين وغيرهم وشهد مع على صفين وكان أحد من كان يجتمع الشيعة فى داره لبيعة الحسين وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق فلما قدمها تخلوا عنه وقتل بكربلاء بعد ذلك ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببا فى قدومه وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته فندموا على ما فعلوه معه ثم اجتمعوا فى هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين فقتل سليمان رضى الله عنه فى هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين وقيل سنة سبع وستين والأول أصح وكان عمره يو قتل ثلاثا وتسعين سنة رحمه الله وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجية إلى مروان بن الحكم بعد الوقعة وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم وأظفرهم من عدوهم فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق وقد قال أهلك الله رؤس الضلال سليمان ابن صرد وأصحابه وعلق الرؤس بدمشق وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولديه عبد الملك ثم من بعده عبد العزيز وأخذ بيعة الأمراء على ذلك فى هذه السنة قاله ابن جرير وغيره وفيها دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الأشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذى كان لعبد الله بن الزبير وهو عبد الرحمن بن حجدم وكان سبب ذلك أن مروان قصدها
فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها وهرب عبد الرحمن ودخل مروان إلى مصر فملكها وجعل عليها ولده عبد العزيز وفيها بعث ابن الزبير أخاه مصعبا ليفتح له الشام فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعا ولم يظفر بشىء واستقر ملك الشام ومصر لمروان
وقال الواقدى إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن حجدم على البلد خندقا وخرج فى أهل مصر إلى قتاله وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون ويسمى ذلك يوم التراويح واستمر القتل فى خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدى كرب الكلاعى أحد الأشراف ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله فأجابه مروان إلى ذلك وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده وتفرق الناس وأخذوا فى دفن موتاهم والبكاء عليهم وضرب مروان عنق ثمانين رجلا تخلفوا عن مبايعته وضرب عنق الأكيدر بن حملة اللخمى وكان من قتلة عثمان وذلك فى نصف جمادى الآخر يوم توفى عبد الله بن عمرو بن العاص فما قدروا أن يخرجوا بجنازته فدفنوه فى داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهرا ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز وترك عنده أخاه بشر بن مروان وموسى بن نصير وزيرا له وأوصاه بالاحسان إلى الأكابر ورجع إلى الشام
وفيها جهز مروان جيشين أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبى ليأخذ له المدينة وكان من أمره ما سنذكره والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره واستمر جيش الشاميين ذاهبا إلى العراق فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم
وكانت وفاته فى شهر رمضان من هذه السنة وكان سبب موته أنه تزج بأم خالد امرأة يزيد ابن معاوية وهى أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغر ابنها خالدا فى أعين الناس فإنه قد كان فى نفوس كثير من الناس منه إن يملكوه بعد أخيه معاوية فتزوج أمه ليصغر أمره فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان أذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه فلما جلس قال له فيما خاطبه به يا ابن الرطبة الاست فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له فقالت اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتنى بذلك فلما دخل عليها مروان قال لها هل ذكرنى خالد عندك بسوء فقالت له وما عساه يقول لك وهو يحبك ويعظمك ثم إن
مروان رقد عندها فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هى وجواريها حتى مات غما وكان ذلك فى ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق وله من العمر ثلاث وستون سنة وقيل إحدى وثمانون سنة وكانت إمارته تسعة أشهر وقيل عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام

ليت ابن مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية