ثم دخلت سنة تسع وسبعين
 
ففيها وقع طاعون عظيم بالشام حتى كادوا يفنون من شدته ولم يغز فيها أحد من أهل الشام لضعفهم وقلتهم ووصلت الروم فيها انطاكية فأصابوا خلقا من أهلها لعلمهم بضعف الجنود والمقاتلة وفيها غزا عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل ملك الترك حتى أوغل فى بلاده ثم صالحه على مال يحمله إليه فى كل سنة وفيها قتل عبد الملك بن مروان الحارث بن سعيد المتنبى الكذاب ويقال له الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقى مولى أبي الجلاس العبدري ويقال مولى الحكم بن مروان كان أصله من الجولة فنزل دمشق وتعبد بها وتنسك وتزهد ثم مكر به ورجع القهرى على عقبية وانسلخ من آيات الله تعالى وفارق حزب الله المفلحين واتبع الشيطان فكان من الغاوين ولم يزل الشيطان يزج فى قفاه حتى أخسره دينه ودنياه وأخزاه وأشقاه فإنا لله وحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
قال أبو بكر بن أبى خيثمة ثنا عبد الوهاب نجدة الجولى حدثنا محمد بن مبارك ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان قال كان الحارث الكذاب من أهل دمشق وكان مولى لأبى الجلاس وكان له أب بالجولة فعرض له إبليس وكان رجلا متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه فكتب إلى أبيه وكان بالجولة يا أبتاه أعجل على فإنى قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لى قال فزاده أبوه غيا على غيه فكتب إليه أبوه يا بنى أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولست بأفاك ولا أثيم فامض لما أمرت به وكان يجىء إلى أهل المسجد رجلا رجلا فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه
قال وكان يريهم الأعاجيب كان يأتى إلى رخامة فى المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحا بليغا حتى يضج من ذلك الحاضرون قلت وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس بن تيمية رحمه الله يقول كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التى فى المقصورة فتسبح وكان زنديقا قال ابن أبى خيثمة فى روايته
وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء فى الصيف وفاكهة الصيف فى الشتاء وكان يقول لهم اخرجوا حتى أريكم الملائكة فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالا على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير وفشا أمره فى المسجد وكثر أصحابه وأتباعه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة قال فعرض على القاسم أمره وأخذ عليه العهد إن هو رضى أمر قبله وإن كرهههكتم عليه قال فقال له إنى نبي فقال القاسم كذبت يا عدو الله ما أنت نبى وفى رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله ص إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبى وأنت أحدهم ولا عهد لك ثم قام فخرج إلى أبى إدريس وكان على القضاء بدمشق فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك وفى روايه أخرى أن مكحولا وعبد الله بن أب زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره فتطلبه عبد الملك طلبا حثيثا واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سرا واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصريه ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو وسأل من عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون فى طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه انتدب نائب القدس لخدمته فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته فاذا أمرهم باشعالها فى الليل أشعلوها كلهم فى سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التى فيها الحارث فقال لبوابة استأذن على نبى الله فقال فى هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح فصاح النصرى أسرجوا فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار وهم النصرى على الحارث فاختفى منه فى سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله إنه قد رفع إلى السماء قال فأدخل النصرى يده فى ذلك السرب فاذا بثوبه فاجتره فأخرجه قم قال للفرعانين من أتراك الخليفة قال فأخذوه فقيدوه فيقال إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مرارا ويعيدونها وجعل يقول قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحى إلى ربي إنه سميع قريب وقال لأولئك الأتراك أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله فقالوا له بلسانهم ولغتهم هذا كراننا فهات كرانك أي هذا قرآننا فهات قرآنك فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلا فطعنه بحربة فانثنت فى ضلع من أضلاعه فقال له عبد الملك ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته فقال نسيت فقال ويحك سم الله ثم اطعنه قال فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجلا
من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذى به من الشيطان فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك وهذا من تمام العدل والدين
وقد قال الوليد بن مسلم عن ابن جابر فحدثنى من سمع الأعور يقول سمعت العلاء بن زياد العدوى يقول ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثا حيث إن رسول الله ص قال لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبى فمن قاله فاقتلوه ومن قتل منهم أحدا فله الجنة وقال الوليد بن مسلم بلغنى أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك لو حضرتك ما أمرتك بقتله قال ولم قال إنه إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب ذلك عنه وقال الوليد عن المنذر بن نافع سمعت خالد بن الجلاخ يقول لغيلان ويحك يا غيلان ألم تأخذك فى شبيبتك ترا من النساء في شهر رمضان بالتفاح ثم صرت حارثيا تحجب امرأته وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدريا زنديقا
وفيها غزا عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل ملك الترك الأعظم فيهم وقد كان يصانع المسلمين تارة ويتمرد أخرى فكتب الحجاج إلى ابن أبى بكرة تأخذه بمن معك من المسلمين حتى تستبيح أرضه وتهدم قلاعه وتقتل مقاتلته فخرج فى جمع من الجنود من بلاده وخلق من أهل البصرة والكوفة ثم التقى مع رتبيل ملك الترك فكسره وهدم أركانه بسطوة بتارة وجاس ابن أبى بكرة وجنده خلال ديارهم واستحوذ على كثير من أقاليمه ومدنه وأمصاره وتبر ما هنالك تتبيرا ثم إن رتبيل تقهقر منه وما زال يتبعه حتى اقترب من مدينته العظمى حتى كانوا منها على ثمانية عشر فرسخا وخافت الأتراك منهم خوفا شديدا ثم إن الترك أخذت عليهم الطرق والشعاب وضيقوا عليهم المسالك حتى ظن كل من المسلمين أنه لا محالة هالك فعند ذلك طلب عبيد الله أن يصالح رتبيل على أن يأخذ منه سبعمائة ألف ويفتحوا للمسلمين طريقا يخرجون عنه ويرجعون عنهم إلى بلادهم فانتدب شريح بن هانئ وكان صحابيا وكان من أكبر أصحاب على وهو المقدم على أهل الكوفة فندب الناس إلى القتال والمصابرة والنزال والجلاد بالسيوف والرماح والنبال فنهاه عبيد الله بن أبى بكرة فلم ينته وأجابه شرذمة من الناس من الشجعان وأهل الحفائظ فما زال يقاتل بهم الترك حتى فنى أكثر المسلمين رضى الله عنهم قالوا وجعل شريح بن هانئ يرتجز ويقول أصبحت ذابث أقاسي الكبرا
قد عشت بين المشركين أعصرا ثم أدركت النبي المنذرا
وبعده صديقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا
والجمع فى صفيهم والنهرا هيهات ما أطول هذا عمرا *
ثم قاتل حتى قتل رضى الله عنه وقتل معه خلق من أصحابه ثم خرج من خرج من الناس صحبة عبيد الله بن أبى بكرة من أرض رتبيل وهم قليل وبلغ ذلك الحجاج فأخذ ما تقدم وما تأخر وكتب إلى عبد الملك يعلمه بذلك ويستشيره فى بعث جيش كثيف إلى بلاد رتبيل لينتقموا منه بسبب ما حل بالمسلمين فى بلاده فحين وصل البريد إلى عبد الملك كتب إلى الحجاج بالموافقة على ذلك وأن يعجل ذلك سريعا فحين وصل البريد إلى الحجاج بذلك أخذ فى جمع الجيوش فجهز جيشا كثيفا لذلك على ما سيأتى تفصيله فى السنة الآتية بعدها وقيل إنه قتل من المسلمين مع شريح بن هانئ ثلاثون ألفا وابتيع الرغيف مع المسلمين بدينار وقاسوا شدائد ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضا فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد قتل المسلمون من الترك خلقا كثيرا أيضا قتلوا أضعافهم ويقال إنه فى هذه السنة استعفى شريح من القضاء فأعقاه الحجاج من ذلك وولى مكانه أبا بردة ابن أبى موسى الأشعرى وقد تقدمت ترجمة شريح عند وفاته فى السنة الماضية والله أعلم قال الواقدى وأبو معشر وغير واحد من أهل السير وحج با الناس فى هذه السنة أبان بن عثمان أمير المدينة النبوية وفيها قتل قطرى بن الفجاءة التميمى أبو نعامة الخارجى وكان من الشجعان المشاهير ويقال إنه مكث عشرين سنة يسلم عليه أصحابه بالخلافة وقد جرت له خطوب وحروب مع جيش المهلب بن أبى صفرة من جهة الحجاج وغيره وقد قدمنا منها طرفا صالحا فى أماكنه وكان خروجه فى زمن مصعب بن الزبير وتغلب على قلاع كثيرة وأقاليم وغيرها ووقائعه مشهورة وقد أرسل إليه الحجاج جيوشا كبيرة فهزمها وقيل إنه برز إليه رجل من بعض الحرورية وهو على فرس أعجف وبيده عمود حديد فلما قرب منه كشف قطرى عن وجهه فولى الرجل هاربا فقال له قطرى إلى أين أما تستحى أن تفر ولم تر طعنا ولا ضربا فقال إن الإنسان لا يستحى أن يفر من مثلك ثم إنه فى آخر أمره توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبى فى جيش فاقتتلوا بطبرستان فعثر بقطرى فرسه فوقع إلى الأرض فتكاثروا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى الحجاج وقيل إن الذى قتله سودة بن الحر الدارمى وكان قطرى بن الفجاءة مع شجاعته المفرطة وإقدامه من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة وجودة الكلام والشعر الحسن فمن مستجاد شعره قوله يشجع نفسه وغيره ومن سمعها انتفع بها أقول لها وقد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لن تراعى فإنك لو طلبت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعى فصبرا فى مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاعى ولا ثوب الحياة بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراعى
سبيل الموت غاية كل حي
وداعيه لأهل الأرض داع فمن لا يغتبط يسأم ويهزم
وتسلمه المنون إلى انقطاعى وما للمرء خير فى حياة
إذا ما عد من سقط المتاعى
ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كثيرا
وفيها توفى عبيد الله بن أبى بكرة رحمه الله وهو أمير الجيش الذى دخل بلاد الترك وقاتلوا رتبيل ملك الترك وقد قتل من جيشه خلق كثير من شريح بن هانئ كما تقدم ذلك وقد دخل عبيد الله بن أبى بكرة على الحجاج مرة وفى يده خاتم فقال له الحجاج وكم ختمت بخاتمك هذا قال على أربعين ألف ألف دينار قال ففيم أنفقتها قال فى اصطناع المعروف ورد الملهوف والمكافأة بالصناع وتزويج العقائل وقيل إن عبيد الله عطش يوما فأخرجت له امرأة كوز ماء بارد فأعطاها ثلاثين ألفا وقيل إنه أهدى إليه وصيف ووصيفة وهو جالس بين أصحابه فقال لبعض أصحابه خذهما لك ثم فكر وقال والله إن إيثار بعض الجلساء على بعض لشح قبيح ودناءة رديئة ثم قال يا غلام ادفع إلى كل واحد من جلسائى وصيفا ووصيفة فأحصى ذلك فكانوا ثمانين وصيفا ووصيفة توفى عبيد الله بن أبى بكرة ببست وقيل بذرخ والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم والحمد لله رب العالمين