قوله : ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل . فإن الله قد اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " .
قوله : عن جندب بن عبد الله أي ابن سفيان البجلي ، وينسب إلى جده ، صحابي مشهور . مات بعد الستين .
قوله : أني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله . والخلة فوق المحبة والخليل هو المحبوب غاية الحب ، مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب ، كما قال الشاعر :
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلاً
هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى .
قال القرطبي : وإنما كان ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره .
قوله : فإن الله قد اتخذني خليلاً فيه بيان أن الخلة فوق المحبة .
قال ابن القيم رحمه الله : وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم خليل الله ، ومحمد حبيب الله ـ فمن جهلهم ، فإن المحبة عامة ، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً ونفى أن يكون له خليل غير ربه ، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ، ولعمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم . وأيضاً فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين ، وخلته خاصة بالخليلين .
قوله : ولو كنت متخذاً خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة . وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع ، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة . وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ، وهم أول من بنى عليها المساجد . قاله المصنف رحمه الله ، وهو كما قال بلا ريب .
وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر ، لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره . وقد استخلفه على الصلاة بالناس ، وغضب صلى الله عليه وسلم لما قيل يصلي بهم عمر وذلك في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم .
واسم أبي بكر : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم . مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه .
قوله : ألا حرف استفتاح ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ... الحديث قال الخلخالي : وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين :
أحدهما : أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً .
الثاني : أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة ، نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء . والأول : هو الشرك الجلي . والثاني : الخلفي ، فلذلك استحقوا اللعن .
قوله : فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب . وهذا من كلام شيخ الإسلام . وكذا ما بعده .
قوله : ثم إنه لعن ، وهو في السياق من فعله كما في حديث عائشة .
قلت : فكيف يسوع بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها ويصلى عندها وإليها ؟ هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون .
قوله : الصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله .
وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم .
قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده ، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته ـ صيغة لا تفعلوا وصيغة أني أنهاكم عن ذلك ـ ليس لأجل النجاسة ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه ، وارتكب ما عنه نهاه ، واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه ، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه ، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه ، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين ، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ، ومن أعدائهم أبعد ، ولعمر الله ، من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يعوق ويغوث ونسرا ، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة ، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم ، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم .
قال الشارح رحمه الله تعالى : وممن علل بخوف الفتنة بالشرك : الإمام الشافعي ، وأبو بكر الأثرم ، وأبو محمد المقدسي . وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله . وهو الحق الذي لا ريب فيه .
قوله : فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه ، ولعن من فعله.
قوله : وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً أي وإن لم يبن مسجد ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً ، يعني وإن لم يقصد بذلك ، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه ، فصار بفعل الصلاة فيه مسجداً .
قوله : كما قال صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " أي فسمى الأرض مسجداً ، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها ، كالمقبرة ونحوها .
قال البغوي في شرح السنة : أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا ، تخفيفاً عليهم وتيسيراً ، ثم خص من جميع المواضع : الحمام والمقبرة والمكان النجس . انتهى .
عدد المشاهدات *:
610545
610545
عدد مرات التنزيل *:
108081
108081
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 21 ماي 2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 01/03/2015