صَاحِبُ دِمَشْقَ، السُّلْطَانُ، المَلِكُ، الأَشْرَفُ، مُظَفَّرُ الدِّيْنِ، أَبُو الفَتْحِ مُوْسَى شَاه أَرْمَنَ ابْنُ العَادِلِ.
وُلِدَ: بِالقَاهِرَةِ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ، فَهُوَ مِنْ أَقرَانِ أَخِيْهِ المُعَظَّمِ.
وَرَوَى عَنِ: ابْنِ طَبَرْزَد.
حَدَّثَنَا عَنْهُ: أَبُو الحُسَيْنِ اليُوْنِيْنَيُّ.
وحَدَّثَ عَنْهُ أَيْضاً: القُوْصِيُّ فِي (مُعْجَمِهِ).
وَسَمِعَ (الصَّحِيْحَ) فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنِ: ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ.
تَملَّكَ القُدْسَ أَوَّلاً، ثُمَّ أَعْطَاهُ أَبُوْهُ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَملَّكَ خِلاَطَ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الأَحْوَالُ، ثُمَّ تَملَّكَ دِمَشْقَ بَعْدَ حِصَارِ النَّاصِرِ بِهَا، فَعَدَلَ، وَخَفَّف الجَوْرَ، وَأَحَبَّتْهُ الرَّعِيَّةُ.
وَكَانَ فِيْهِ دِينٌ وَخَوفٌ مِنَ اللهِ عَلَى لَعِبِهِ.
وَكَانَ جَوَاداً، سَمحاً، فَارِساً، شُجَاعاً، لَديهِ فَضِيْلَةٌ.
(42/126)
وَلَمَّا مرَّ بِحَلَبَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّ مائَةٍ، تَلقَّاهُ الملكُ الظَّاهِرُ ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنْزَلَه فِي القَلْعَةِ، وَبَالَغَ فِي الإِنفَاقِ عَلَيْهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِيْنَ يَوْماً، فَلَعَلَّهُ نَابَهُ فِيْهَا لأَجله خَمْسُوْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، ثُمَّ قَدَّمَ لَهُ تَقدِمَةً وَهِيَ: مائَة بُقْجَةٍ مَعَ مائَةِ مَمْلُوْكٍ فِيْهَا فَاخِرُ الثِّيَابِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُوْنَ رَأْساً مِنَ الخيلِ، وَعِشْرُوْنَ بَغلاً وَقطَارَان جِمَال، وَعِدَّة خِلَعٍ لِخوَاصِّه وَمائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَشيَاءُ سِوَى ذَلِكَ. (22/124)
وَمِنْ سَعَادتِه أَنَّ أَخَاهُ الملكَ الأَوْحَدَ صَاحِبَ خِلاَطٍ مَرِضَ، فَعَادَهُ الأَشْرَفُ، فَأَسَرَّ الطَّبِيْبُ إِلَيْهِ: إِنَّ أَخَاكَ سَيَمُوتُ.
فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ، وَاسْتَوْلَى الأَشْرَفُ عَلَى أَرْمِيْنِيَةَ.
وَكَانَ مَلِيْحَ الهَيْئَةِ، حُلوَ الشَّمَائِلِ، قِيْلَ: مَا هُزِمتْ لَهُ رَايَةٌ.
وَكَانَ لَهُ عُكُوفٌ عَلَى المَلاَهِي وَالمُسْكِرِ - عفَا الله عَنْهُ - وَيُبَالغ فِي الخُضوعِ لِلْفُقَرَاءِ وَيَزورُهُم وَيُعْطِيهِم، وَيُجِيْزُ عَلَى الشِّعرِ، وَيَبعثُ فِي رَمَضَانَ بِالحلاَوَات إِلَى أَمَاكنِ الفُقَرَاءِ، وَيُشَاركُ فِي صَنَائِعَ، وَلَهُ فَهْمٌ وَذَكَاءٌ وَسِيَاسَةٌ.
أَخرَبَ خَانَ العُقَيْبَة، وَعَمِلَهُ جَامِعاً.
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: فَجلَسْتُ فِيْهِ، وَحَضرَ الأَشْرَفُ، وَبَكَى، وَأَعتقَ جَمَاعَةً، وَعَمِلَ مَسْجِدَ بَابِ النَّصْرِ، وَدَارَ السَّعَادَةِ، وَمَسجدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَامِعَ جَرَّاحٍ، وَدَاري الحَدِيْثِ بِالبَلَدِ وَبِالسَّفحِ وَالدَّهشَةِ، وَجَامِعَ بَيْت الأَبَّارِ.
(42/127)
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: كَانَ الأَشْرَف يَحضُرُ مَجَالِسِي بِحَرَّانَ، وَبِخِلاَطٍ، وَدِمَشْقَ، وَكَانَ مَلِكاً عَفِيْفاً، قَالَ لِي: مَا مَددتُ عَيْنِي إِلَى حَرِيْمِ أَحَدٍ، وَلاَ ذَكرٍ وَلاَ أُنْثَى، جَاءتْنِي عَجُوْزٌ مِنْ عِنْدِ بِنْتِ صَاحِبِ خِلاَطٍ شَاه أَرْمَن بِأَنَّ الحَاجِبَ عَلِيّاً أَخَذَ لَهَا ضَيعَةً، فَكَتَبتُ بِإِطلاَقهَا.
فَقَالَتِ العَجُوْزُ: تُرِيْدُ أَنْ تَحضُرَ بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَجَاءتْ بِهَا، فَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْ قَوَامهَا، وَلاَ أَحْسَنَ مِنْ شَكلِهَا، فَخَدَمَت، فَقُمْتُ لَهَا، وَقُلْتُ: أَنْتَ فِي هَذَا البَلدِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي؟
فَسَفرتْ عَنْ وَجْهٍ أَضَاءتْ مِنْهُ الغُرفَةُ، فَقُلْتُ: لاَ، اسْتَترِي.
فَقَالَتْ: مَاتَ أَبِي، وَاسْتَوْلَى عَلَى المَدِيْنَةِ بُكْتَمر، ثُمَّ أَخَذَ الحَاجِب قرِيتِي، وَبقيت أَعيش مِنْ عَمل النّقش وَفِي دَار بِالكرَاء.
فَبكيت لَهَا، وَأَمرت لَهَا بِدَار وَقمَاش، فَقَالَتِ العَجُوْز: يَا خوند، أَلاَ تحظى اللَّيْلَة بِك؟
فَوَقَعَ فِي قَلْبِي تغَيُّر الزَّمَان وَأَنَّ خِلاَط يَملكهَا غَيْرِي، وَتَحْتَاج بِنْتِي أَنْ تَقعد هَذِهِ القعدَة، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللهِ، مَا هَذَا مِنْ شيمتِي.
فَقَامَتِ الشَّابة بَاكيَة تَقُوْلُ: صَان الله عواقبك. (22/125)
وَحَدَّثَنِي: أَن غُلاَماً لَهُ مَاتَ فَخلّف ابْناً كَانَ مليح زَمَانه، وَكُنْت أُتَّهم بِهِ، وَهُوَ أَعزّ مِنْ وَلد، وَبلغ عِشْرِيْنَ سَنَةً، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ ضَرَبَ غُلاَماً لَهُ فَمَاتَ، فَاسْتغَاث أَوليَاؤُه، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِم ممَاليكِي، حَتَّى بذلُوا لَهُم مائَة أَلْف، فَأَبوا إِلاَّ قتله، فَقُلْتُ: سلّمُوْهُ إِلَيْهِم.
فَسلمُوْهُ، فَقتلُوْهُ.
(42/128)
وَقضيته مَشْهُوْرَة بِحَرَّانَ؛ أَتَاهُ أَصْحَاب الشَّيْخ حَيَاة، وَبدّدُوا المسكر مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَكَتَ، وَكَانَ يَقُوْلُ: بِهَا نصرت.
وَقَدْ خلع عليّ مرَّة، وَأَعْطَانِي بَغْلَة وَعَشْرَة آلاَف دِرْهَم.
وَحَدَّثَنِي الفَقِيْه مُحَمَّد اليُوْنِيْنِيّ، قَالَ: حَكَى لِي فَقير صَالِح، قَالَ: لَمَّا مَاتَ الأَشْرَف، رَأَيْتهُ فِي ثِيَاب خُضر، وَهُوَ يَطير مَعَ الأَوْلِيَاء.
وَلَهُ شعر - فِيْمَا قِيْلَ -.
قَالَ: وَكُنْت أَغشَاه فِي مَرَضِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَعدَّ لِلقَاء الله فَمَا يَضر، فَقَالَ: لاَ وَاللهِ بَلْ يَنفع، فَفَرَّق البِلاَد، وَأَعتق ممَاليكه نَحْو مائَتَيْنِ، وَوَقَفَ دَار السعَادَة وَالدَّهشَة عَلَى بِنْته. (22/126)
وَقَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: خَلَّف بِنْتاً، فَتَزَوَّجَهَا المَلِكُ الجَوَاد، فَلَمَّا تَسَلْطن عمّهَا الصَّالِح فَسخ نِكَاحهَا، وَلأَنَّهُ حلف بِطَلاَقهَا عَلَى شَيْءٍ فَعله، ثُمَّ زوّجهَا بولده المَنْصُوْر مُحَمَّد، فَدَامت فِي صُحبته إِلَى اليَوْمِ.
وَكَانَ لِلأَشرف مَيْل إِلَى المُحَدِّثِيْنَ وَالحَنَابِلَة؛ قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: وَقعت فِتْنَة بَيْنَ الشَّافِعِيَّة وَالحَنَابِلَة بِسَبَب العقَائِد.
قَالَ: وَتعصّب الشَّيْخ عِزّ الدِّيْنِ بن عَبْدِ السَّلاَمِ عَلَى الحَنَابِلَة، وَجَرَتْ خَبطَة، حَتَّى كتب عِزّ الدِّيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى الأَشْرَف يَقع فِيهِم، وَأَنَّ النَّاصح سَاعِد عَلَى فَتح بَاب السَّلاَمَة لعَسْكَر الظَّاهِر وَالأَفْضَل عِنْدَمَا حَاصرُوا العَادل، فَكَتَبَ الأَشْرَف: يَا عِزّ الدِّيْنِ، الفِتْنَة سَاكنَة لَعَنَ اللهُ مثيرهَا، وَأَمَّا بَاب السَّلاَمَة فَكمَا قِيْلَ:
وَجُرْم جَرَّهُ سُفَهَاء ُقَوْمٍ * فَحَلَّ بِغَيْرِ جَانِيهِ العَذَابُ
وَقَدْ تَابَ الأَشْرَف فِي مَرَضِهِ وَابتهل، وَأَكْثَر الذّكر وَالاسْتِغْفَار.
(42/129)
قُلْتُ: مرض مرضين مُخْتَلِفيْن فِي أَعلاَهُ وَأَسفله، فَقِيْلَ: كَانَ الجرَائِحِي يُخْرِج مِنْ رَأْسِهِ عِظَاماً، وَهُوَ يَحمد الله.
وَلَمَّا احتُضِر، قَالَ لابْنِ موسك: هَاتِ وَديعتِي، فَجَاءَ بِمئزر صُوْف فِيْهِ خِرقٌ مِنْ آثَار المَشَايِخ، وَإِزَار عَتِيْق، فَقَالَ: يَكُوْن هَذَا عَلَى بَدَنِي أَتقِي بِهِ النَّار، وَهَبَنِيه إِنْسَان حَبَشِيّ مِنَ الأَبْدَال كَانَ بِالرُّهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَمُّوَيْه: كَانَ بِهِ دمَامل فِي رَأْسه وَمَخْرَجِه، وَتَأَسّف الخلق عَلَيْهِ.
قُلْتُ: كَانَ يُبَالِغ فِي تَعْظِيْم الشَّيْخ الفَقِيْه، تَوضأَ الفَقِيْه يَوْماً، فَوَثَبَ الأَشْرَف، وَحلّ مِنْ تَخْفِيْفَته، وَرمَاهَا عَلَى يَدِي الشَّيْخ ليُنَشِّف بِهَا، رَأَى ذَلِكَ شَيْخنَا أَبُو الحُسَيْنِ، وَحكَاهُ لِي.
مَاتَ: فِي رَابع المُحَرَّم، سَنَة خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَكَانَ آخر كَلاَمه: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله - فِيْمَا قِيْلَ -. (22/127)
(42/130)
وُلِدَ: بِالقَاهِرَةِ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ، فَهُوَ مِنْ أَقرَانِ أَخِيْهِ المُعَظَّمِ.
وَرَوَى عَنِ: ابْنِ طَبَرْزَد.
حَدَّثَنَا عَنْهُ: أَبُو الحُسَيْنِ اليُوْنِيْنَيُّ.
وحَدَّثَ عَنْهُ أَيْضاً: القُوْصِيُّ فِي (مُعْجَمِهِ).
وَسَمِعَ (الصَّحِيْحَ) فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنِ: ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ.
تَملَّكَ القُدْسَ أَوَّلاً، ثُمَّ أَعْطَاهُ أَبُوْهُ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَملَّكَ خِلاَطَ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الأَحْوَالُ، ثُمَّ تَملَّكَ دِمَشْقَ بَعْدَ حِصَارِ النَّاصِرِ بِهَا، فَعَدَلَ، وَخَفَّف الجَوْرَ، وَأَحَبَّتْهُ الرَّعِيَّةُ.
وَكَانَ فِيْهِ دِينٌ وَخَوفٌ مِنَ اللهِ عَلَى لَعِبِهِ.
وَكَانَ جَوَاداً، سَمحاً، فَارِساً، شُجَاعاً، لَديهِ فَضِيْلَةٌ.
(42/126)
وَلَمَّا مرَّ بِحَلَبَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّ مائَةٍ، تَلقَّاهُ الملكُ الظَّاهِرُ ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنْزَلَه فِي القَلْعَةِ، وَبَالَغَ فِي الإِنفَاقِ عَلَيْهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِيْنَ يَوْماً، فَلَعَلَّهُ نَابَهُ فِيْهَا لأَجله خَمْسُوْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، ثُمَّ قَدَّمَ لَهُ تَقدِمَةً وَهِيَ: مائَة بُقْجَةٍ مَعَ مائَةِ مَمْلُوْكٍ فِيْهَا فَاخِرُ الثِّيَابِ، وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُوْنَ رَأْساً مِنَ الخيلِ، وَعِشْرُوْنَ بَغلاً وَقطَارَان جِمَال، وَعِدَّة خِلَعٍ لِخوَاصِّه وَمائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَشيَاءُ سِوَى ذَلِكَ. (22/124)
وَمِنْ سَعَادتِه أَنَّ أَخَاهُ الملكَ الأَوْحَدَ صَاحِبَ خِلاَطٍ مَرِضَ، فَعَادَهُ الأَشْرَفُ، فَأَسَرَّ الطَّبِيْبُ إِلَيْهِ: إِنَّ أَخَاكَ سَيَمُوتُ.
فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ، وَاسْتَوْلَى الأَشْرَفُ عَلَى أَرْمِيْنِيَةَ.
وَكَانَ مَلِيْحَ الهَيْئَةِ، حُلوَ الشَّمَائِلِ، قِيْلَ: مَا هُزِمتْ لَهُ رَايَةٌ.
وَكَانَ لَهُ عُكُوفٌ عَلَى المَلاَهِي وَالمُسْكِرِ - عفَا الله عَنْهُ - وَيُبَالغ فِي الخُضوعِ لِلْفُقَرَاءِ وَيَزورُهُم وَيُعْطِيهِم، وَيُجِيْزُ عَلَى الشِّعرِ، وَيَبعثُ فِي رَمَضَانَ بِالحلاَوَات إِلَى أَمَاكنِ الفُقَرَاءِ، وَيُشَاركُ فِي صَنَائِعَ، وَلَهُ فَهْمٌ وَذَكَاءٌ وَسِيَاسَةٌ.
أَخرَبَ خَانَ العُقَيْبَة، وَعَمِلَهُ جَامِعاً.
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: فَجلَسْتُ فِيْهِ، وَحَضرَ الأَشْرَفُ، وَبَكَى، وَأَعتقَ جَمَاعَةً، وَعَمِلَ مَسْجِدَ بَابِ النَّصْرِ، وَدَارَ السَّعَادَةِ، وَمَسجدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَامِعَ جَرَّاحٍ، وَدَاري الحَدِيْثِ بِالبَلَدِ وَبِالسَّفحِ وَالدَّهشَةِ، وَجَامِعَ بَيْت الأَبَّارِ.
(42/127)
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: كَانَ الأَشْرَف يَحضُرُ مَجَالِسِي بِحَرَّانَ، وَبِخِلاَطٍ، وَدِمَشْقَ، وَكَانَ مَلِكاً عَفِيْفاً، قَالَ لِي: مَا مَددتُ عَيْنِي إِلَى حَرِيْمِ أَحَدٍ، وَلاَ ذَكرٍ وَلاَ أُنْثَى، جَاءتْنِي عَجُوْزٌ مِنْ عِنْدِ بِنْتِ صَاحِبِ خِلاَطٍ شَاه أَرْمَن بِأَنَّ الحَاجِبَ عَلِيّاً أَخَذَ لَهَا ضَيعَةً، فَكَتَبتُ بِإِطلاَقهَا.
فَقَالَتِ العَجُوْزُ: تُرِيْدُ أَنْ تَحضُرَ بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَجَاءتْ بِهَا، فَلَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْ قَوَامهَا، وَلاَ أَحْسَنَ مِنْ شَكلِهَا، فَخَدَمَت، فَقُمْتُ لَهَا، وَقُلْتُ: أَنْتَ فِي هَذَا البَلدِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي؟
فَسَفرتْ عَنْ وَجْهٍ أَضَاءتْ مِنْهُ الغُرفَةُ، فَقُلْتُ: لاَ، اسْتَترِي.
فَقَالَتْ: مَاتَ أَبِي، وَاسْتَوْلَى عَلَى المَدِيْنَةِ بُكْتَمر، ثُمَّ أَخَذَ الحَاجِب قرِيتِي، وَبقيت أَعيش مِنْ عَمل النّقش وَفِي دَار بِالكرَاء.
فَبكيت لَهَا، وَأَمرت لَهَا بِدَار وَقمَاش، فَقَالَتِ العَجُوْز: يَا خوند، أَلاَ تحظى اللَّيْلَة بِك؟
فَوَقَعَ فِي قَلْبِي تغَيُّر الزَّمَان وَأَنَّ خِلاَط يَملكهَا غَيْرِي، وَتَحْتَاج بِنْتِي أَنْ تَقعد هَذِهِ القعدَة، فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللهِ، مَا هَذَا مِنْ شيمتِي.
فَقَامَتِ الشَّابة بَاكيَة تَقُوْلُ: صَان الله عواقبك. (22/125)
وَحَدَّثَنِي: أَن غُلاَماً لَهُ مَاتَ فَخلّف ابْناً كَانَ مليح زَمَانه، وَكُنْت أُتَّهم بِهِ، وَهُوَ أَعزّ مِنْ وَلد، وَبلغ عِشْرِيْنَ سَنَةً، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ ضَرَبَ غُلاَماً لَهُ فَمَاتَ، فَاسْتغَاث أَوليَاؤُه، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِم ممَاليكِي، حَتَّى بذلُوا لَهُم مائَة أَلْف، فَأَبوا إِلاَّ قتله، فَقُلْتُ: سلّمُوْهُ إِلَيْهِم.
فَسلمُوْهُ، فَقتلُوْهُ.
(42/128)
وَقضيته مَشْهُوْرَة بِحَرَّانَ؛ أَتَاهُ أَصْحَاب الشَّيْخ حَيَاة، وَبدّدُوا المسكر مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَكَتَ، وَكَانَ يَقُوْلُ: بِهَا نصرت.
وَقَدْ خلع عليّ مرَّة، وَأَعْطَانِي بَغْلَة وَعَشْرَة آلاَف دِرْهَم.
وَحَدَّثَنِي الفَقِيْه مُحَمَّد اليُوْنِيْنِيّ، قَالَ: حَكَى لِي فَقير صَالِح، قَالَ: لَمَّا مَاتَ الأَشْرَف، رَأَيْتهُ فِي ثِيَاب خُضر، وَهُوَ يَطير مَعَ الأَوْلِيَاء.
وَلَهُ شعر - فِيْمَا قِيْلَ -.
قَالَ: وَكُنْت أَغشَاه فِي مَرَضِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَعدَّ لِلقَاء الله فَمَا يَضر، فَقَالَ: لاَ وَاللهِ بَلْ يَنفع، فَفَرَّق البِلاَد، وَأَعتق ممَاليكه نَحْو مائَتَيْنِ، وَوَقَفَ دَار السعَادَة وَالدَّهشَة عَلَى بِنْته. (22/126)
وَقَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: خَلَّف بِنْتاً، فَتَزَوَّجَهَا المَلِكُ الجَوَاد، فَلَمَّا تَسَلْطن عمّهَا الصَّالِح فَسخ نِكَاحهَا، وَلأَنَّهُ حلف بِطَلاَقهَا عَلَى شَيْءٍ فَعله، ثُمَّ زوّجهَا بولده المَنْصُوْر مُحَمَّد، فَدَامت فِي صُحبته إِلَى اليَوْمِ.
وَكَانَ لِلأَشرف مَيْل إِلَى المُحَدِّثِيْنَ وَالحَنَابِلَة؛ قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: وَقعت فِتْنَة بَيْنَ الشَّافِعِيَّة وَالحَنَابِلَة بِسَبَب العقَائِد.
قَالَ: وَتعصّب الشَّيْخ عِزّ الدِّيْنِ بن عَبْدِ السَّلاَمِ عَلَى الحَنَابِلَة، وَجَرَتْ خَبطَة، حَتَّى كتب عِزّ الدِّيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى الأَشْرَف يَقع فِيهِم، وَأَنَّ النَّاصح سَاعِد عَلَى فَتح بَاب السَّلاَمَة لعَسْكَر الظَّاهِر وَالأَفْضَل عِنْدَمَا حَاصرُوا العَادل، فَكَتَبَ الأَشْرَف: يَا عِزّ الدِّيْنِ، الفِتْنَة سَاكنَة لَعَنَ اللهُ مثيرهَا، وَأَمَّا بَاب السَّلاَمَة فَكمَا قِيْلَ:
وَجُرْم جَرَّهُ سُفَهَاء ُقَوْمٍ * فَحَلَّ بِغَيْرِ جَانِيهِ العَذَابُ
وَقَدْ تَابَ الأَشْرَف فِي مَرَضِهِ وَابتهل، وَأَكْثَر الذّكر وَالاسْتِغْفَار.
(42/129)
قُلْتُ: مرض مرضين مُخْتَلِفيْن فِي أَعلاَهُ وَأَسفله، فَقِيْلَ: كَانَ الجرَائِحِي يُخْرِج مِنْ رَأْسِهِ عِظَاماً، وَهُوَ يَحمد الله.
وَلَمَّا احتُضِر، قَالَ لابْنِ موسك: هَاتِ وَديعتِي، فَجَاءَ بِمئزر صُوْف فِيْهِ خِرقٌ مِنْ آثَار المَشَايِخ، وَإِزَار عَتِيْق، فَقَالَ: يَكُوْن هَذَا عَلَى بَدَنِي أَتقِي بِهِ النَّار، وَهَبَنِيه إِنْسَان حَبَشِيّ مِنَ الأَبْدَال كَانَ بِالرُّهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَمُّوَيْه: كَانَ بِهِ دمَامل فِي رَأْسه وَمَخْرَجِه، وَتَأَسّف الخلق عَلَيْهِ.
قُلْتُ: كَانَ يُبَالِغ فِي تَعْظِيْم الشَّيْخ الفَقِيْه، تَوضأَ الفَقِيْه يَوْماً، فَوَثَبَ الأَشْرَف، وَحلّ مِنْ تَخْفِيْفَته، وَرمَاهَا عَلَى يَدِي الشَّيْخ ليُنَشِّف بِهَا، رَأَى ذَلِكَ شَيْخنَا أَبُو الحُسَيْنِ، وَحكَاهُ لِي.
مَاتَ: فِي رَابع المُحَرَّم، سَنَة خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَكَانَ آخر كَلاَمه: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله - فِيْمَا قِيْلَ -. (22/127)
(42/130)

148597

0

* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 15/12/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 15/12/2013