ثم ذكر المؤلف ـ رحمة الله تعالى ـ ما نقله عن عائشة رضي الله عنها في باب المجاهدة ، وقد سبق لنا: أن من جملة المجاهدة مجاهدة الإنسان نفسه وحمل إياها على عبادة الله ، والصبر على ذلك . ذكر المؤلف رحمه الله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت : يا رسول الله لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً )، فعائشة ـ رضي الله عنها ـ من أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يصنعه في السر ؛ أي في بيته ، وكذلك نساؤه ـ رضي الله عنهن ـ هن أعلم الناس بما يصنعه في بيته .
ولهذا كان كبار الصحابة يأتون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عما كان يصنع في بيته ، فكان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل يعني في الصلاة تهجداً . وقد قال الله تعالى في سورة المزمل : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) (المزمل:20) .
فكان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحياناً أكثر الليل ، وأحياناً نصف الليل ، وأحياناً ثلث الليل ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي نفسه حقها من الراحة مع القيام التام بعبادة ربه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، فكان يقوم أدنى من ثلثي الليل ـ يعني فوق النصف ، ودون الثلثين -ونصفه وثلثه ؛ حسب نشاطه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛وكان يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر من طول القيام ؛ أي يتحجر الدم فيها وتنشق .
وقد قام معه شباب من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولكنهم تعبوا فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقام طويلاً حتى هممت بأمر سوء ، قالوا : بما هممت يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هممت أن أقعد وأدعه(54) ، أي يجلس ؛ لعجزه عن أن يصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قام معه ذات ليلة فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة والنساء وآل عمران ، الجميع خمسة أجزاء وربع تقريباً ، ويقول حذيفة : كلما أتت آية رحمة سأل ، وكلما أتت آية تسبيح سبح ، وكلما أتت آية وعيد تعوذ (55)، وهو معروف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه يرتل القراءة .
خمسة أجزاء وربع ، مع السؤال عند آيات الرحمة ، والتعوذ عند آيات الوعيد ، والتسبيح عن آيات التسبيح ؛ فماذا يكون القيام ؟ يكون طويلاً ، وهكذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقرأ في الليل .
وإذا أطال القراءة أطال الركوع والسجود أيضاً ، فكان يطيل القراءة والركوع والسجود .
فإذا كان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثلاً في ليلة من ليالي الشتاء وهي اثنتا عشرة ساعة ، يقوم أدنى من ثلثي الليل ؛ فلنقل إنه صلى الله عليه وسلم يقوم سبع ساعات تقريباً وهو يصلي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الليل الطويل . تصور ماذا يكون حاله ـ عليه الصلاة والسلام ؟ ومع هذا فقد صبر نفسه ، وجاهد نفسه ، وقال : (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) .
وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله ، وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه ـ عز وجل ـ فقد ازداد شكراً لله ـ عز وجل ـ ؛ وليس الشكر بأن يقول الإنسان بلسانه : أشكر الله ، أحمد الله ؛ فهذا شكر باللسان ، لكن الكلام هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما يستطيع .
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ كل ما تقدم من ذنبه فقد غفر الله له ، ,كل ما تأخر فقد غفر الله له ، وقد خرج من الدنيا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ سالماً من كل ذنب ؛ لأنه مغفور له .
وقد يخص الله أقواماً فيغفر لهم ذنوبهم بأعمال صالحة قاموا بها مثل أهل بدر . فأهل بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، منهم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في قصة مشهورة : ( أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال : اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وهذا من خصائص أهل بدر ؛ أن الله غفر لهم ما يفعلون من الذنوب .
وإلا فإن حاطباً ـ رضي الله عنه ـ فعل ذنباً عظيماً ، وذلك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أراد أن يغزو قريشاً حين نقضت العهد الذي بينه وبينهم في صلح الحديبية ، أرسل حاطب ـ رضي الله عنه ـ رسالة خطية إلى أهل مكة ، يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادم عليهم ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي ، فأرسل علي بن أبي طالب ورجلاً معه في إثر المرأة فأدركوها في روضة خاخ ـ روضة معروفة في طريق مكة ـ فلما أدركوها أوقفوها وقالوا لها : أخرجي الكتاب الذي معك لأهل مكة ، قالت : ما معي كتاب ، قالوا : لابد أن تخرجي الكتاب الذي معك ، فإما أن تخرجيه وإما أن نفتشك حتى ما تحت الثياب ، فلما عرفت عزيمتهم أخرجت الكتاب من خفها ، فإذا فيه خطاب من حاطب ـ رضي الله عنه ـ إلى أهل مكة يخبرهم ، فرجعوا به إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاستأذن عمر ـ رضي الله عنه ـ وكان من أقوى الناس في دين الله ـ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل حاطباً ، قال : إن الرجل نافق ، كتب بأسرارنا إلى أعدائنا قال : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )(56) ، وكان منهم ـ رضي الله عنه ـ وإلا فهذه جريمة كبيرة .
ولهذا يجب على ولي الأمر إذا أدرك جاسوساً يكتب إلى أعدائنا بأخبارنا أن يقتله ولو كان مسلماً ؛ لأنه عاث في الأرض فساداً ، فقتل الجاسوس ولو كان مسلماً واجب على ولي الأمر لعظم فساده ، ولكن هذا منع منه مانع ؛ وهو أنه كان من أهل بدر ، ولهذا لم يقل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما علمت أنه مسلم ؟ بل قال : ( أما علمت أن اطلع الله على أهل بدر ... ) .
ففي هذا دليل على أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهذا قد يقع ـ كما قلت ـ لبعض الصحابة كأهل بدر . قال بعض العلماء : واعلم أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبناءً عليه : فكل حديث يأتي بأن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه حديث ضعيف ، لأن هذا من خصائص الرسول ، أما ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، فهذا كثير ، لكن ( ما تأخر ) ، هذا ليس إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فقط ، وهو من خصائصه ، وهذه قاعدة عامة نافعة لطالب العلم ؛ أنه إذا أتاك حديث فيه أن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فاعلم أن قوله ( ما تأخر ) ضعيف لا يصح ؛ لأن هذا من خصائص محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه .
وفي هذا دليل أيضاً على فضيلة قيام الليل ، وطول القيام ، وقد أثنى الله على من يقوم الليل ويطيلون، فقال ـ عز وجل ـ ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) (السجدة:16) ، يعني تبتعد عن الفرش ، ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً ) أي : إذا نظروا إلى ذنوبهم خافوا ( وَطَمَعاً ) أي : إذا نظروا إلى فضل الله طمعوا في فضله ، ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (السجدة:16،17) ، أسال الله أن يجعلني وإياكم منهم .
وتتجافي جنوبهم عن المضاجع ، ليس بالسهر على التلفزيون ، أو على لعب الورق أو على أعراض الناس ، أو ما أشبه ذلك ، ولكنهم يدعون الله ، ويعبدونه ـ عز وجل ـ خوفاً وطمعاً ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أين هذا الذي أخفى لهم ؟ جاء في الحديث القدسي ما يبين ذلك حيث قال الله ـ عز وجل ـ :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر )(57) ، جعلني الله وإياكم من ساكني هذه الجنان، إنه جواد كريم .
(52) أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب قيام النبي بالليل ، رقم (1130) ، ومسلم كتاب صفة القيامة ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، رقم (2820) .
(53) أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ .. ) ، رقم (4836) ، ومسلم كتاب صفة القيامة ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، رقم ( 2819) .
(54) أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب طوال القيام في الليل ، رقم (1135) ومسلم ،كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (773) .
(55) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل ،رقم (772) .
(56) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح ، رقم (4274) ، ومسلم ،كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر ، رقم (2494) .
(57) تقدم تخرجه .
ولهذا كان كبار الصحابة يأتون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عما كان يصنع في بيته ، فكان صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل يعني في الصلاة تهجداً . وقد قال الله تعالى في سورة المزمل : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) (المزمل:20) .
فكان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحياناً أكثر الليل ، وأحياناً نصف الليل ، وأحياناً ثلث الليل ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعطي نفسه حقها من الراحة مع القيام التام بعبادة ربه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، فكان يقوم أدنى من ثلثي الليل ـ يعني فوق النصف ، ودون الثلثين -ونصفه وثلثه ؛ حسب نشاطه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛وكان يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر من طول القيام ؛ أي يتحجر الدم فيها وتنشق .
وقد قام معه شباب من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولكنهم تعبوا فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقام طويلاً حتى هممت بأمر سوء ، قالوا : بما هممت يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هممت أن أقعد وأدعه(54) ، أي يجلس ؛ لعجزه عن أن يصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قام معه ذات ليلة فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم البقرة والنساء وآل عمران ، الجميع خمسة أجزاء وربع تقريباً ، ويقول حذيفة : كلما أتت آية رحمة سأل ، وكلما أتت آية تسبيح سبح ، وكلما أتت آية وعيد تعوذ (55)، وهو معروف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه يرتل القراءة .
خمسة أجزاء وربع ، مع السؤال عند آيات الرحمة ، والتعوذ عند آيات الوعيد ، والتسبيح عن آيات التسبيح ؛ فماذا يكون القيام ؟ يكون طويلاً ، وهكذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقرأ في الليل .
وإذا أطال القراءة أطال الركوع والسجود أيضاً ، فكان يطيل القراءة والركوع والسجود .
فإذا كان يقوم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثلاً في ليلة من ليالي الشتاء وهي اثنتا عشرة ساعة ، يقوم أدنى من ثلثي الليل ؛ فلنقل إنه صلى الله عليه وسلم يقوم سبع ساعات تقريباً وهو يصلي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الليل الطويل . تصور ماذا يكون حاله ـ عليه الصلاة والسلام ؟ ومع هذا فقد صبر نفسه ، وجاهد نفسه ، وقال : (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) .
وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله ، وأن الإنسان كلما أزداد في طاعة ربه ـ عز وجل ـ فقد ازداد شكراً لله ـ عز وجل ـ ؛ وليس الشكر بأن يقول الإنسان بلسانه : أشكر الله ، أحمد الله ؛ فهذا شكر باللسان ، لكن الكلام هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما يستطيع .
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ كل ما تقدم من ذنبه فقد غفر الله له ، ,كل ما تأخر فقد غفر الله له ، وقد خرج من الدنيا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ سالماً من كل ذنب ؛ لأنه مغفور له .
وقد يخص الله أقواماً فيغفر لهم ذنوبهم بأعمال صالحة قاموا بها مثل أهل بدر . فأهل بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، منهم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في قصة مشهورة : ( أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال : اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وهذا من خصائص أهل بدر ؛ أن الله غفر لهم ما يفعلون من الذنوب .
وإلا فإن حاطباً ـ رضي الله عنه ـ فعل ذنباً عظيماً ، وذلك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أراد أن يغزو قريشاً حين نقضت العهد الذي بينه وبينهم في صلح الحديبية ، أرسل حاطب ـ رضي الله عنه ـ رسالة خطية إلى أهل مكة ، يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادم عليهم ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي ، فأرسل علي بن أبي طالب ورجلاً معه في إثر المرأة فأدركوها في روضة خاخ ـ روضة معروفة في طريق مكة ـ فلما أدركوها أوقفوها وقالوا لها : أخرجي الكتاب الذي معك لأهل مكة ، قالت : ما معي كتاب ، قالوا : لابد أن تخرجي الكتاب الذي معك ، فإما أن تخرجيه وإما أن نفتشك حتى ما تحت الثياب ، فلما عرفت عزيمتهم أخرجت الكتاب من خفها ، فإذا فيه خطاب من حاطب ـ رضي الله عنه ـ إلى أهل مكة يخبرهم ، فرجعوا به إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاستأذن عمر ـ رضي الله عنه ـ وكان من أقوى الناس في دين الله ـ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل حاطباً ، قال : إن الرجل نافق ، كتب بأسرارنا إلى أعدائنا قال : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )(56) ، وكان منهم ـ رضي الله عنه ـ وإلا فهذه جريمة كبيرة .
ولهذا يجب على ولي الأمر إذا أدرك جاسوساً يكتب إلى أعدائنا بأخبارنا أن يقتله ولو كان مسلماً ؛ لأنه عاث في الأرض فساداً ، فقتل الجاسوس ولو كان مسلماً واجب على ولي الأمر لعظم فساده ، ولكن هذا منع منه مانع ؛ وهو أنه كان من أهل بدر ، ولهذا لم يقل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما علمت أنه مسلم ؟ بل قال : ( أما علمت أن اطلع الله على أهل بدر ... ) .
ففي هذا دليل على أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهذا قد يقع ـ كما قلت ـ لبعض الصحابة كأهل بدر . قال بعض العلماء : واعلم أن من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبناءً عليه : فكل حديث يأتي بأن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه حديث ضعيف ، لأن هذا من خصائص الرسول ، أما ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، فهذا كثير ، لكن ( ما تأخر ) ، هذا ليس إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فقط ، وهو من خصائصه ، وهذه قاعدة عامة نافعة لطالب العلم ؛ أنه إذا أتاك حديث فيه أن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فاعلم أن قوله ( ما تأخر ) ضعيف لا يصح ؛ لأن هذا من خصائص محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه .
وفي هذا دليل أيضاً على فضيلة قيام الليل ، وطول القيام ، وقد أثنى الله على من يقوم الليل ويطيلون، فقال ـ عز وجل ـ ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) (السجدة:16) ، يعني تبتعد عن الفرش ، ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً ) أي : إذا نظروا إلى ذنوبهم خافوا ( وَطَمَعاً ) أي : إذا نظروا إلى فضل الله طمعوا في فضله ، ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (السجدة:16،17) ، أسال الله أن يجعلني وإياكم منهم .
وتتجافي جنوبهم عن المضاجع ، ليس بالسهر على التلفزيون ، أو على لعب الورق أو على أعراض الناس ، أو ما أشبه ذلك ، ولكنهم يدعون الله ، ويعبدونه ـ عز وجل ـ خوفاً وطمعاً ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أين هذا الذي أخفى لهم ؟ جاء في الحديث القدسي ما يبين ذلك حيث قال الله ـ عز وجل ـ :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر )(57) ، جعلني الله وإياكم من ساكني هذه الجنان، إنه جواد كريم .
(52) أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب قيام النبي بالليل ، رقم (1130) ، ومسلم كتاب صفة القيامة ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، رقم (2820) .
(53) أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ .. ) ، رقم (4836) ، ومسلم كتاب صفة القيامة ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة ، رقم ( 2819) .
(54) أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب طوال القيام في الليل ، رقم (1135) ومسلم ،كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (773) .
(55) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل ،رقم (772) .
(56) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح ، رقم (4274) ، ومسلم ،كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر ، رقم (2494) .
(57) تقدم تخرجه .
عدد المشاهدات *:
420576
420576
عدد مرات التنزيل *:
177356
177356
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 21 ماي 2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 14/04/2015